الاثنين، 3 يوليو 2017

مؤسسات الثقافة الحديثة وبناء الدولة القومية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مؤسسات الثقافة الحديثة وبناء الدولة القومية
عماد أبو غازي
 عرفت مصر المؤسسات الثقافية الحديثة في القرن التاسع عشر، بداية من عصر محمد علي، ويرجع الفضل لعصره في وضع أسس الدولة المصرية الحديثة عمومًا، ومن بينها المؤسسات الثقافية، مثل: الأرشيف القومي والمتحف القومي والمكتبة القومية، والمؤسسات الثلاث تعد من أعمدة الدول القومية والأسس التي تقوم عليها، وقد أرتبط ظهورها في العالم بظهور تلك الفكرة، فكرة الدولة القومية، التي تستند إلى التاريخ دائمًا، سواء التاريخ الحقيقي أو التاريخ المختلق، ومن هنا كان احتياج الدولة القومية دومًا للأرشيف والمتحف والمكتبة لتؤسس لوجودها تاريخيًا، أو لتصنع لنفسها تاريخًا من العدم.

محمد علي باشا
 ففي عام 1829 أنشأ محمد علي كتبخانة لاستخدامه الشخصي واستخدام كبار رجال دولته بالقلعة، وفي نفس العام أنشأ ديوان الدفترخانة وجعل مقره بالقلعة أيضًا، وبعدها بسنوات تأسس أول متحف للآثار القديمة، وكانت تلك المؤسسات الثلاث نواة لأهم ثلاث مؤسسات ثقافية من مؤسسات الدولة القومية الحديثة في مصر: المتحف القومي والمكتبة القومية والأرشيف القومي.

رفاعة
 بدأت الدعوة لتأسيس المتاحف من رائد النهضة الفكرية في مصر في عصر محمد علي الشيخ رفاعة الطهطاوي، وكان ذلك بعد عودة الطهطاوي من باريس حيث كان محمد علي قد أوفده إمامًا دينيًا للبعثة فعاد حاملًا لأفكار التحديث، وبدأ يدعو للاهتمام بالآثار وإنشاء المتاحف لحفظها، وقد تأسس أول متحف لحفظ الآثار القديمة مع منتصف القرن التاسع عشر في أحد القصور بحي بولاق غرب مدينة القاهرة، وتنقل متحف الآثار في أكثر من موضع إلى أن استقر في مبناه الحالي بميدان التحرير بقلب العاصمة منذ مطلع القرن العشرين، وتوالى إنشاء المتاحف الأثرية والتاريخية والفنية والعلمية في مختلف المدن المصرية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كما تحولت بيوت عدد من ساسة مصر وفنانيها ومفكريها إلى متاحف ومزارات ثقافية، وتتبنى وزارة الثقافة المصرية الآن مشروعين لمتحفين كبيرين: المتحف المصري الكبير بصحراء الهرم، ومتحف الحضارة المصرية بالفسطاط، وفكرة المتاحف التي تجمع التراث القومي وتحفظ الذاكرة التاريخية أو تصطنعها، تشكل مقومًا أساسيًا من مقومات أي دولة قومية، فالمتاحف شواهد على وجود تاريخ للأمة.
المتحف
 أما المكتبات فقد عرفتها مصر منذ أقدم عصور حضارتها، فقد كانت المكتبات تلحق بالمعابد والقصور في مصر القديمة، وفي العصر البطلمي تأسست مكتبة الإسكندرية القديمة التي تعد أكبر مكتبات العالم القديم، وفي الحقبة الإسلامية أنشأ الخلفاء الفاطميون دار الحكمة بالقاهرة لتنافس دور الحكمة في بغداد وقد أغلق صلاح الدين الأيوبي تلك الدار ودمر رصيدها من الكتب بعد إسقاطه الخلافة الفاطمية بسبب الخلافات المذهبية، حيث كان الفاطميون من الشيعة بينما كان صلاح الدين سنيًا مواليًا للخلافة العباسية في بغداد، وفي عصر المماليك ازدهرت المكتبات العامة الملحقة بالمدارس والمساجد وحوت عشرات الآلاف من المخطوطات في مختلف مجالات المعرفة، وقد استولى سليم الأول العثماني على كثير من تلك المخطوطات عندما احتل مصر ونقل تلك المخطوطات إلى استانبول، ولكن رصيد مصر من المكتبات تجدد إلى حد ما في العصر العثماني من خلال أوقاف الباشاوات العثمانيين البكوات المماليك وبعض كبار المشايخ والتجار من المصريين على المدارس والمساجد.
 وبعد أن تولى محمد علي باشا حكم مصر بسنوات قام بإنشاء مكتبة بمقر الحكم بالقلعة سنة 1829، كما أنشأ مطبعة بولاق ليدخل مصر عصر الكتاب المطبوع.
 لكن تلك المكتبات تختلف جوهريًا عن المكتبة القومية بمعناها الحديث، تلك المؤسسة التي تضم الإنتاج الفكري للأمة من الأمم بهدف توثيقه وإتاحته لأبنائها، جنبًا إلى جنب مع تراث الأمم الأخرى، ومشروع إنشاء مكتبة قومية مصرية على غرار المكتبات القومية الحديثة في أوروبا تحقق في عصر الخديوي إسماعيل؛ فقد تبنى علي باشا مبارك مدير المدارس مشروع إنشاء الكتب خانة الخديوية كمكتبة قومية لمصر وقد وافق الخديوي إسماعيل على الفكرة وأصدر قراره بإنشاء الكتب خانة الخديوية في 23 مارس سنة 1870، ضمت مجموعة كتب خانة القلعة والكتب والمخطوطات الموجودة بالمدارس والمساجد القديمة التابعة للأوقاف، ومكتبتي نظارة الأشغال والمعارف العمومية وما اشتراه الخديوي إسماعيل من مكتبة شقيقة الأمير مصطفى فاضل الذي أصبح قصره أول مقر للكتب خانة الخديوية كما ضمت بعض الرسوم الهندسية، وبعد ذلك بعض البرديات والمسكوكات، كما تلقت الدار مكتبات كاملة على سبيل الإهداء من بعض كبار جامعي الكتب والمخطوطات من أمثال العلامة أحمد زكي باشا، وتيمور وطلعت من رجال السرايا، كما تلقت الدار في عصور متتالية مكتبات خاصة من عائلات كبار مفكري مصر ومبدعيها على سبيل الإهداء، وضمت إليها مجموعات من مكتبات القصور الملكية.

دار الكتب
وفي عام 1899 وضع عباس حلمي الثاني حجر الأساس لمبنى دار الكتب ودار الآثار الإسلامية بباب الخلق وقد افتتح المبنى في عام 1903، وفتحت دار الكتب أبوابها للباحثين عام 1904، وألحقت بالدار مطبعة تخصصت في طبع كتب التراث والكتب الأدبية والتاريخية، وفي سنة 1927 تحول اسم الدار إلى دار الكتب المصرية، وفي سنة 1966 ضمت دار الكتب ودار الوثائق القومية في هيئة واحدة باسم هيئة دار الكتب والوثائق القومية، وسرعان ما أدمجت هذه الهيئة في عام 1971 في دار النشر الحكومية التابعة لوزارة الثقافة تحت اسم الهيئة المصرية العامة للكتاب، لتعيش أسوأ مرحلة في تاريخها، وقد استمر هذا الوضع حتى عام 1993 عندما عاد لهيئة دار الكتب والوثائق القومية كيانها المستقل، وقد أعيد مؤخرًا تجهيز مبنى الدار القديم بمنطقة باب الخلق بوسط القاهرة ليصبح متحفًا للوثائق والمخطوطات والمسكوكات والقطع الأثرية ونوادر المطبوعات من مقتنيات الدار.
 أما ثالث مؤسسات الدولة القومية في الثقافة، الأرشيف القومي فله رحلة أخرى.
الدستور نوفمبر 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق