الخميس، 4 أكتوبر 2018

الوصاية على عقل مصر


مخربشات
الوصاية على عقل مصر
عماد أبو غازي
 عدت من رحلتي اللندنية بعد رفع الحظر على الطيران لأواجه الحذر على العقول، فقد وجدت الصحافة تتحدث عن قضية جديدة من قضايا مصادرة حرية التعبير والإبداع.


 بلاغ تقدم به مجموعة من المحامين للنائب العام، يطالبون بحبس الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة والكاتب الكبير جمال الغيطاني رئيس تحرير سلسلة الذخائر التي تصدرها الهيئة والتي تنشر روائع التراث العربي وتتيحها للقارئ بسعر زهيد.
 أما السبب ويا للعجب، أنهما أعادا نشر طبعة بولاق من "ألف ليلة وليلة"، تلك الطبعة التي صدرت للمرة الأولى سنة 1251 هجرية أي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وصدرت عن مطبعة بولاق التي أنشأها محمد علي باشا في إطار مشروعه لتحديث مصر.
 "ألف ليلة وليلة" نص من أهم نصوص الأدب العربي في العصر الوسيط، والنص مجهول المؤلف، أو بمعنى أدق ليس له مؤلف واحد، فما يذكره الدارسون عن ألف ليلة وليلة أنها لم تخرج بصورتها الحالية منذ البداية، وإنما أُلّفت على مراحل وأضيفت إليها على مر الزمن مجموعات من القصص بعضها له أصول هندية قديمة معروفة، وبعضها مأخوذ من أخبار العرب وقصصهم، كما أن ألف ليلة وليلة ليس لها موطن واحد بل إن لقصصها مواطن متعددة، فقد ثبت أنها تمثل بيئات شتى خيالية وواقعية، وأكثر البيئات بروزا فيها هي العراق وسوريا ومصر؛ وربما نستطيع أن نقول إن القصص بشكلها الحالي يرجح أن تكون كتابتها قد اكتملت في القرن الرابع عشر الميلادي، أي في زمن المماليك.
 وقد أصبحت "ألف ليلة وليلة" نصًا أدبيًا عالميًا، وذاع صيتها وذلك منذ ترجمها المستشرق الفرنسي انطوان جالان إلى الفرنسية عام 1704م، وقد ترجمت بعد ذلك إلى لغات عديدة وعرفت باسم "الليالي العربية".
 وفي عالمنا العربي اهتم كثير من الباحثين بدراسة "ألف ليلة وليلة" باعتبارها نصًا أدبيًا من أهم نصوص التراث العربي، وربما كانت دراسة سهير القلماوي عن "ألف ليلة وليلة" من أوليات الدراسات الحديثة وأهمها عن هذا النص التراثي العظيم، كما كان من أبرز من درسوا "ألف ليلة وليلة" جمال الدين بن شيخ ومحسن مهدي، وقد رحل ثلاثتهم عن عالمنا قبل أن تصدمهم دعاوى مصادرة التراث التي نعيش في ظلالها الكئيبة الآن.


 وقد كتب د.محسن مهدي أستاذ الحضارة العربية بجامعة هارفارد والذي يعد من أهم من درسوا ألف ليلة وليلة من العرب عن هذا النص معرفًا برحلته فقال: "بعد أن انتقلت نسخة الكتاب الخطية بين مصر والشام مدة تزيد على أربعة قرون من الزمن، وترجم من نسخ خطية إلى اللغة التركية والفرنسية والإنجليزية، وظهرت منه مقتطفات مطبوعة في إنجلترا في نهاية القرن الثامن عشر من الميلاد، طبع الكتاب لأول مرة في كلكتا في الهند في جزئين، في المطبعة الهندوستانية وبرعاية كلية فورت وليم، الجزء الأول بعنوان "حكايات مائة ليلة من ألف ليلة وليلة" عام 1814 م، والجزء الثاني بعنوان "المجلد الثاني من كتاب ألف ليلة وليلة يشتمل على حكايات مائة ليلة وأخبار السندباد مع الهندباد" عام 1818 م، نشره الشيخ أحمد بن محمود شيرواني اليماني أحد أعضاء هيئة التدريس في قسم اللغة العربية في الكلية المذكورة؛ وقد أقتصر الناشر على وضع مقدمة موجزة باللغة الفارسية ذات الأسلوب الهندي في أول كل واحد من الجزئين".
 وبعدها بسنوات قليلة صدرت في مصر الطبعة الأولى عن مطبعة بولاق سنة 1251 هجرية، التي راجعها الشيخ الشرقاوي كبير المصححين بالمطبعة، وأعقبتها طبعات أخرى عن مطبعة بولاق كان من أشهرها طبعة الشيخ قطة العدوي التي صدرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعتبر طبعات مطبعة بولاق من أهم طبعات "ألف ليلة وليلة" وأكملها.
 ولم نجد في عصور مجد الحضارة العربية والإسلامية في الأدب والفن من يتبرأ من "ألف ليلة وليلة"، أو يتصدى للمطالبة بمنعها، كما لم نجد في القرن التاسع عشر عندما عرفت مصر المطبعة الحديثة من يدعو لمصادرتها أو لعزل محمد علي باشا الذي أمر بطبعها، أو حبس الشيخ الشرقاوي والشيخ العدوي اللذان أشرفا على طبعها وتصحيحها ونشرها، لكننا عشنا لنرى من يتصدرون لفرض الوصاية على عقولنا وتقرير ما ينبغي أن نقرأه وما لا ينبغي، مصادرين أبسط حقوقنا، حق المعرفة.


 لقد أصبحت "ألف ليلة وليلة" تراثًا للإنسانية جمعاء ومصدرًا من أهم مصادر الإلهام للمبدعين في مجالات الفنون والآداب المختلفة، والتراث الإنساني لا يملك أحد كائنًا من كان أن يصادره أو يهذبه أو يحذف منه وفقًا لهواه، لقد ترك لنا الأقدمون تراثًا علينا أن نحافظ عليه، ومن لا يعجبه هذا التراث فليبتعد عنه ولا يقرأه.
 لكننا مدينون لجمال الغيطاني وأحمد مجاهد أن أتاحا لنا "ألف ليلة وليلة" في متناول أيدينا مرة أخرى.
  والأوصياء يمتنعون.
الدستور 5 مايو 2010