الأحد، 16 يوليو 2017

متى فقد المصريون ذاكرتهم؟... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
متى فقد المصريون ذاكرتهم؟
عماد أبو غازي
 متى فقد المصريون ذاكرتهم؟ أو بمعنى أدق، متى تغيرت قيم المجتمع المصري؟ هل فقد المصريون هذه السمات في شخصيتهم بقطيعتهم التدريجية مع الفكر المصري القديم؟ هل مع توالي الغزاة الأجانب على مصر؟ بدخول الفرس أم الإغريق أم الرومان أم العرب؟ هل مع دخول العثمانيين؟ أم عندما وقع الاحتكاك بالغرب؟ أما مع الهجرة المصرية إلى الخليج وعودة المصريين محملين بالأفكار الوهابية؟
 أتصور أن هذه الأسباب مجتمعة تضافرت وتراكمت حتى وصلنا إلى حال طمست فيه الكثير من السمات الإيجابية في التكوين المصري.
من المؤكد أننا لم نفقد هذه الذاكرة دفعة واحدة، فقد عايش البعض منا بعضًا من تلك السمات في ماض ليس ببعيد، لقد أخذت هذه السمات تتآكل تدريجيًا، فتاريخ المصريين مر بمرحلتين أساسيتين، مرحلة صعود تبدأ من فجر التاريخ منذ نزول المصري الأول إلي أرض وادي النيل وترويض النهر والاستقرار على ضفتيه وتشييد حضارة رائدة وتمتد تلك المرحلة حتى عام 526 قبل الميلاد عندما احتل الفرس مصر للمرة الأولى، كانت مصر خلال تلك السنوات التي تزيد عن أربعة آلاف سنة في صعود مستمر تتخلله فترات كبوات قصيرة، وفي تلك المرحلة تكونت قيم المجتمع المصري وتقاليده وتطورت حتى استقرت، وتبدأ المرحلة الثانية من لحظة غزو قمبيز لمصر سنة 526 قبل الميلاد وتمتد حتى الآن،  إنها مرحلة هبوط متواصل وانهيار، مرحلة ضعف تتخللها لحظات من القوة ولحظات من مقاومة الانهيار ومحاولات للبناء وللبعث الحضاري والثقافي.
لقد مر على مصر غزاة كثيرون ولم يتغير حال المصريين كثيرًا، بل عادة ما كان الغزاة هم الذين يتغيرون، خاصة أولئك الغزاة والحكام الأجانب الذين أقاموا مقر دولتهم بداخل أرض مصر كالبطالمة والفاطميين والمماليك وأسرة محمد علي... نلاحظ  أن هؤلاء الحكام بالتدريج يتمصرون فالإسكندر الأكبر الذي جاء إلي مصر غازيًا ومات شابًا اقتسم دولته قادة جيشه، وكانت مصر من نصيب بطليموس الذي اتخذ الإسكندرية عاصمة لحكمه وقد أصبحت كليوباترا أخر من حكم من سلالته ملكة مصرية بالتمصر رغم أنها ذات أصل مقدوني، وكذلك المماليك كانوا أجانب لكنهم تمصروا أو اكتسبوا السمات المصرية، وأبدع المصريون سيرة شعبية لواحد من سلاطينهم الأوائل هو الظاهر بيبرس، وأصبح آخرهم الأشرف طومان باي رمزًا من رموز الدفاع عن مصر، ذلك المملوك ذو الأصول الجركسية أصبح في وجدان الناس مصريًا، عندما تصدى للغزاة العثمانيين، ودعا المصريين لحمل السلاح دفاعًا عن وطنهم بعد أن حرموا من هذا الحق منذ الاحتلال الروماني سنة 30 قبل الميلاد، وعندما شنق سليم الأول طومان باي علي باب زويلة تحدث عنه مؤرخو عصره وشعراؤه علي أنه حاكم مصري، وروى المصريون قصته على المقاهي كأحد أبطالهم الشعبيين.
 كذلك كان من بين هؤلاء الحكام الأجانب من استطاع أن يلتقط الروح المصرية ويتقرب للمصريين من خلال ما يحبوه، والفاطميون أبرز مثال على ذلك، فقد كان اهتمامهم بالروح المصرية أحد الأسباب التي جعلت المصريين يتعلقون بالدولة الفاطمية، كما يمكن أن نرجع نجاح الظاهر برقوق في تأسيس دولة المماليك الجراكسة إلى روحه الشعبوية.
 حقا لقد عاش الفلاح المصري على مر العصور في ظل استغلال اقتصادي متواصل، لكن هناك فارق كبير بين العصور التي كان مركز الدولة فيها في مصر حتى وإن كان الحاكم أجنبيا، وتلك العصور التي كانت مصر تحكم فيها من خارجها، من روما أو بيزنطة أو المدينة أو دمشق أو بغداد أو استنبول، ففي الحالة الأولى يعاد إنفاق الجزء الأكبر من الفائض الاقتصادي الذي تحصل عليه الطبقة الحاكمة في داخل البلاد، وفي الحالة الثانية يمنح هذا الفائض إلى الخارج، وكان هذا ينعكس دائمًا إيجابًا أو سلبًا على الطاقة الإبداعية للشعب. كانت هناك دائمًا حالة من الصعود والهبوط... لكن رغم ذلك مقوماتنا وسماتنا موجودة دائمًا بداخلنا ولكنها تخبو وتنتعش مرة بعد الأخرى. عناصر القوة كانت تنتعش دائمًا عندما تقود القوى المبدعة المجتمع وتتراجع عندما يسيطر على المجتمع المصري تحالف العسكر والكهنة، تحالف الخوذة والعمامة.
 وهناك نموذج ملهم للحظات الصعود التي تجمع كل ما كان إيجابيًا من سمات التكوين المصري، نموذج جاء تتويجًا لثمرة كفاح المصريين في المرحلة التي بدأت منذ عام 1795، أعني نموذج الثورة المصرية، ثورة 1919،  فقد قامت الثورة علي أساس عدة أفكار أهمها: فكرة المواطنة، والتعددية، وفكرة المقاومة الشعبية، ودفعت المجتمع إلى الإعلاء من مجموعة من القيم الإيجابية: قيمة العمل، وقيمة الإتقان، وقد جسد أهم مبدعو العصر بديع خيري وسيد درويش ومختار تلك القيم من خلال الفن، فأعمال الثنائي بديع خيري وسيد درويش تعلي من قيم المواطنة والتعددية واحترام العمل والمقاومة، والقيمتان الأخيرتان تجسدهما أعمال مختار الذي اختار الفلاحة بقوة، وهذه الأفكار وهذه الروح  ظلت موجودة حتى عام 1952، ثم بدأت هذه الأفكار تتراجع تدريجيًا مع تراجع الحريات الديمقراطية، إلي أن وصلنا إلي ما نحن عليه الآن، مع صعود حركات الإسلام السياسي وسيطرة الأفكار الوهابية التي تحرم على الناس "عيشتهم" والتي أخذت تتوغل في عقل المجتمع منذ بداية السبعينيات.
الدستور 5 مارس 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق