الأربعاء، 7 يونيو 2017

بلد جميلة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
بلد جميلة...
عماد أبو غازي

  "بلد جميلة"؛ بالنسبة لي وأظن بالنسبة لكثيرين من أبناء جيلي الذين تفتح وعينا في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، فإن الجزائر بلد جميلة، أعني جميلة بو حريد المناضلة الجزائرية الكبيرة التي ألقى الفرنسيون القبض عليها  وعذبوها تعذيبًا وحشيًا كي يحصلوا منها على اعترافات حول نشاط جبهة التحرير، وحاكموها محاكمة صورية كانت وصمة عار في جبين العدالة الفرنسية، وانتهت المحاكمة إلى إصدار حكمًا بالإعدام عليها، لكن حركة التضامن الشعبي على مستوى العالم كله مع جميلة بو حريد لعبت دورًا كبيرًا في منع الفرنسيين من تنفيذ حكم الإعدام ضدها، كان لجهود محاميها الفرنسي فيرجاس ـ والذي تزوجته فيما بعد ـ أثرًا مهمًا في فضح زيف المحاكمة، وبالمناسبة فإن فيرجاس ظل إلى الآن مدافعًا عن قضايا الشعوب وعن الثوار في كل مكان، وقد قدم المخرج المصري الكبير يوسف شاهين ثورة الجزائر سينمائيًا من خلال فيلمه الرائع عن جميلة بو حريد والذي لعبت بطولته الفنانة ماجدة، وقد عرض الفيلم وجميلة قيد الاعتقال في انتظار تنفيذ حكم الإعدام فيها، وأنهى شاهين فيلمه نهاية مفتوحة كانت بشيرًا بانتصار ثورة الجزائر، وكان الفيلم مصدرًا لنا في طفولتنا للتعرف على تلك الثورة العظيمة وحافزًا لتعلقنا بها، كانت جميلة مدخلنا إلى الثورة الجزائرية، وكانت رمزًا لنضال شعبها، ربطنا وجدانيًا بينها وبين الجزائر، فصارت الجزائر لدينا بلد "جميلة".


 وفي الأسبوع الماضي واتتني الفرصة لزيارة الجزائر للمرة الأولى، وجاءت زيارتي التي طالما حلمت بها، عضوًا في الوفد الرسمي المصري المشارك في احتفالات الجزائر بمناسبة اختيار مدينة الجزائر العاصمة عاصمة للثقافة العربية لعام 2007، وبسبب مواعيد الطيران بين القاهرة والجزائر توفرت لنا فرصة على مدى يوم ونصف لزيارة معالم الجزائر العاصمة بصحبة مرافقينا الجزائريين كارم وأحمد وعبد السلام وممثلة وزارة الثقافة، الذين حملونا في أعينهم كما لو كنا الضيوف الوحيدين على الاحتفالية.
 كنت أعرف الكثير عن الأمير عبد القادر وجهاده عقب الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، كما كنت أعرف أيضًا الكثير عن ثورة الجزائر التي أعلنتها الجبهة الوطنية للتحرير في نوفمبر 1954، والتي نجح أبطالها في تحرير الجزائر تحريرًا كاملًا، لكني لم أكن أعرف أن تاريخ الجزائر بين وقوع الأمير عبد القادر في أثر الفرنسيين سنة 1847، وإعلان انطلاق الكفاح المسلح لحركة التحرير الوطني الجزائري في أول نوفمبر 1954، تاريخ ممتد من الثورة المستمرة، التي ما تكاد تخبو نارها في منطقة حتى تشتعل في أخرى، كذلك كنت أعرف عن جميلة بو حريد ورفيقاتها من مجاهدات الثورة الجزائرية لكن لم أكن أعرف من قبل أن القرن التاسع عشر شهد ظهور قائدات مجاهدات قدن الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، وأن من بينهن لالا فاطمة نسومر القائدة الأمازيغية التي ناضلت من أجل استقلال الجزائر في منتصف القرن التاسع عشر حتى وقعت في أسر الفرنسيين وماتت وعمرها 33 سنة، عرفت ذلك وغيره الكثير عن تاريخ نضال هذا الشعب، من خلال متحف رائع لتاريخ الجهاد الوطني، يكشف عن مدى احترام الجزائر دولة وشعبًا لتاريخ نضالها الوطني وتمجيدها لذكرى الشهداء والمجاهدين.
 أما عن علاقة مصر بالجزائر فكلنا نعرف دعم مصر لثورة الجزائر ومساندتها لها، ذلك الدعم الذي مازال الجزائريون يتذكرونه بامتنان، لكن ما عرفته من خلال زيارة متحف الآثار ـ وهو بالمناسبة أقدم متحف للآثار في قارة أفريقيا وفي العالم العربي، حيث تأسس سنة 1835 ـ أن للجزائريين خاصة الأمازيغ أساطيرهم حول أمهم المصرية التي كانت ملكة للجزائر في عصور قديمة، وحول أم سمراء مصرية أيضًا لسمر البشرة منهم، كما عرفت عن انتشار عبادة إيزيس في الجزائر في العصر الروماني، وشاهدت تماثيلها المنحوتة هناك والتي ترجع إلى القرون الأولى للميلاد.
 أما أهم ما يميز الجزائر فأظنه التنوع الثقافي، والذي كان حفلا الافتتاح الشعبي والرسمي لعام الجزائر عاصمة للثقافة العربية تعبيرًا عنه، كان الافتتاح الشعبي يوم الخميس الماضي 11 يناير حافلًا وذاخرًا تضمن استعراضًا كرنفاليًا مبهجًا افتتحته فرق الخيالة تحمل علم الاحتفال وأعلام الجزائر وكذا أعلام الجامعة العربية ودولها، ثم فرق الموسيقات العسكرية بأزيائها المستمدة من الأزياء التراثية الجزائرية، أعقبها عرضًا لثلاثة وعشرين عربة تمثل الجزائر العاصمة والدول العربية الاثنتين  والعشرين، على كل منها رمزًا أو مجموعة من الرموز تمثل ثقافة البلد الذي تحمل العربة اسمه، وتسبق كل عربة فرقة من فرق الفنون الشعبية الجزائرية، 23 فرقة لكل منها طابعًا فنيًا مختلفًا عن الأخرى، تعكس هذه الفرق مدى التنوع الثقافي في الجزائر، هذا البلد الذي يحمل بالفعل كما ردد مذيع الحفل أكثر من مرة ملامح قارة ثقافية، وقد تكرر التعبير عن هذا التنوع مرة أخرى في حفل الافتتاح الرسمي، الذي تضمن أكثر من فقرة فنية تعكس الفخر بالشباب والفتية الجزائريين، بموسيقاهم وفنونهم الجديدة باعتبارهم مستقبل الجزائر.
 مجاهدة جزائرية اتصلت بوزيرة الثقافة السيدة خليدة التومي يوم الافتتاح الشعبي لاحتفالية الجزائر عاصمة للثقافة العربية وهي تبكي من شدة التأثر، اعتبرت اختيار الجزائر عاصمة للثقافة العربية بمثابة يوم الاستقلال الحقيقي للجزائر.
 بعد أن زرت الجزائر أخيرًا تأكد لي أنها بلد جميلة بالفعل، جميلة رمز المقاومة فالمقاومة روح الجزائر وتراثه العظيم، وهي كذلك بلد جميلة بكل معاني الجمال، جمال الطبيعة وجمال التراث وجمال الفنون وجمال الثقافة، وقبل كل ذلك وبعده جمال البشر الذين صنعوا هذا البلد العظيم.

الدستور 17 يناير 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق