السبت، 10 يونيو 2017

إضراب مدرسة الفنون الجميلة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
إضراب مدرسة الفنون الجميلة

عماد أبو غازي

 كان إضراب طلاب مدرسة الحقوق العليا بداية لحركة طلابية متصاعدة، خاصة أن اتجاه سلطات الاحتلال ورجلها القوي في نظارة المعارف المستشار دنلوب في تلك الفترة كان إصدار لوائح دراسية جديدة للمدارس العليا تقييد نشاط الطلاب وتحاصره بعد أن أصبح واضحًا منذ تأسيس نادي المدارس العليا أن الطلاب ارتبطوا بالنشاط الوطني المطالب بالجلاء والدستور، وأن تأثير تيار الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل قد أصبح طاغيًا بينهم.
 ومن تلك اللوائح التي أثارت حنق الطلاب لما فيها من القيود، اللائحة التي وضعت لمدرسة الفنون الجميلة في العام الدراسي 1909/ 1910، بعد افتتاح المدرسة بعام وعدة شهور، وعن موقف طلاب المدرسة من تلك اللائحة الجديدة وتصديهم لها في حركة طلابية جديدة قادها الطالب الشاب وقتئذ الفنان الرائد بعدها بسنوات قليلة محمود مختار.


 أرجع في سرد تلك الأحداث إلى ما كتبه بدر الدين أبو غازي في كتابه "مختار حياته وفنه" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1949، وطبعته الثالثة عام 2003، وأترك له الحديث؛ يقول بدر الدين أبو غازي:
 "كانت فكرة الحق الشخصي والحرية الفردية تتأكد وتستقر إلى جانب فكرة حرية الجموع وتحرر الوطن، يدعو إلى هذه مصطفى كامل ويدعو إلى تلك لطفي السيد. ونفذت هذه الأفكار إلى المدارس العليا فتوالت حركات الإضراب احتجاجًا على ما وضعه المشرفون على الإدارة من قيود عدها طلبة الفن امتهانا لهم.
 وقاد مختار هذه الحركة ووقف يخطب في جموع الطلبة وينادي بهتافات ثائرة وتطور الأمر إلى حد دعا الناظر إلى فصله مع خمسة عشر زميلًا كانوا يمثلون خلاصة النبوغ في المدرسة، وفي مقدمة هؤلاء محمد حسن ويوسف كامل".
 أصبح يوسف كامل فيما بعد رائد فن التصوير الحديث في مصر إلى جانب زميله راغب عياد ومجايله محمود سعيد، أما محمد حسن فقد ترك بصمة مهمة في فن التصوير رغم أنه كان مقلًا في إنتاجه الفني، أما دوره الأساسي فجاء من خلال نشاطه الوظيفي في بناء مؤسسات الدولة في مجال الفنون التشكيلية، وتولى رئاستها.
 أعود إلى مصير الطلاب المفصولين كما رواه بدر الدين أبو غازي في كتابه، يقول: "ومضى الطلبة مزهوين ببطولتهم واصطحبوا معهم أحد شعراء الربابة وقضوا بقية اليوم في بيت مختار يستمعون إلى قصة عنترة، ولكنهم أخذوا مع مرور الأيام يفتقدون النبع الذي التقوا حوله ويحسون خواء حياتهم وعز عليهم أن تنقطع بينهم وبين معهدهم كل الصلات فاستأجروا دكانًا على مقربة منه نسقوا فيه أعمالهم الفنية لتجذب أنظار الجمهور في غدوه ورواحه، وهناك كانوا يلتقون ويستعيدون دروسهم الفنية ويرددون في زهو الأسماء الكبرى التي كانوا يسمعونها من أساتذتهم. وفي المساء ينصرف الرفاق ويعود مختار إلى بيته فيجمع جيران الحي ويظل يحدثهم عن الفن ويعلمهم بعض ما تلقاه.
 وأمدهم هذا الجو الذي أحاطوا به أنفسهم بشيء من السلوى والعزاء إلى أن أعادهم الأستاذ لابلاني إلى معهدهم إشفاقًا على ضياع مواهبهم وعادت الأسباب بينهم وبين الفن من جديد".
 هذا ولم تكن مشاركة مختار وقيادته لحركة طلبة مدرسة الفنون الجميلة أول إسهام له في النضال الطلابي، فقبلها بشهور شارك مختار مع زملاء له في مظاهرات عامة مطالبة بالدستور ومنددة بالقيود على حرية الصحافة، وقد صادف صديقي وجاري في السكن وفي صفحة الرأي بالدستور محمد حاكم نصًا في مذكرات سعد أرشدني إليه يتحدث فيه عن تلك الواقعة، يقول سعد الذي كان ناظرًا للمعارف وقتها:
 "في 31 مارس 1909 تظاهر كثير من الناس والطلبة، وطافوا الشوارع بعد أن خطبوا خطبًا مهيجة في حديقة الجزيرة، وألقوا أشعارًا غاية في الحماسة، وتقرر محاكمة الخطباء على تهيجيهم، وطعنهم في الخديوي ووزارته.
 وقبض على تلميذ من الخديوية يدعى عباس حلمي، وآخر من يدعي مختار، من مدرسة الفنون الجميلة، وحكم على كل منهما ـ في اليوم التالي ـ بالحبس 20 يومًا، نظير تعديهما على رجال البوليس بالضرب، وقد رفت الأول لذلك.
  ثم حصلت مظاهرة أخرى في اليوم التالي من الطلبة في الجامع الأزهر، والمدارس على اختلاف أنواعها. لكن البوليس أراد صرف المتظاهرين في ساحة الأوبرا، وصدهم عن السير في شارع كامل، فلم يمتثلوا، فاستعمل الشدة معهم، بأن زحف عليهم بخيلة ورجاله، ورش الماء عليهم بمضخات الحريق، فتفرقوا.
 ونادت الجرائد، في اليوم التالي، بالويل والثبور وعظائم الأمور، واتهمت رجال البوليس بالقسوة البالغة، والشدة الفائقة".
  أما بدر الدين أبو غازي مؤرخ حياة مختار فقد ذكر تفاصيل أخرى تكمل الصورة حيث قال: "شارك مختار في المظاهرات مع الجموع الثائرة يطالب بالدستور ويهتف به. وعندما يشهد حكمدار القاهرة الإنجليزي يدهم جموع المتظاهرين ينقض على حصانه ويجذبه فيهوي به إلى الأرض، ويقبض عليه ويودع السجن مع جموع من فتيان الشعب".
 إنها صفحة أخرى منسية من نشاط طلاب مصر في مطلع القرن الماضي، تعكس التحامهم بالحركة الوطنية في فترة الاختمار التي مهدت للثورة الشعبية الوطنية الديموقراطية، ثورة 1919.

الدستور 21 فبراير 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق