الأربعاء، 14 يونيو 2017

ثورة الشباب... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
ثورة الشباب
عماد أبو غازي
 جاء تصريح السير صمويل هور وزير الخارجية البريطاني يوم 9 نوفمبر 1935 والذي عرفه المصريون من الصحف التي نشرته في صباح اليوم التالي في وقته، جاء ومصر تستعد  للاحتفال بذكرى عيد الجهاد الوطني، وعيد الجهاد الوطني يصادف 13 نوفمبر من كل عام، اليوم الذي توجه فيه سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي سنة 1918 إلى دار المعتمد البريطاني مطالبين بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لهم بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس ممثلين للشعب المصري، وكانت مصر تحتفل بهذا اليوم وتعتبره أهم أعيادها الوطنية إلى أن ألغى انقلاب يوليو 52 هذا اليوم من ذاكرة الوطن، جاء تصريح هور وسحب الانقسام تخيم على المعارضة المصرية، والصادم في صفوفها أشد من الصدام بينها وبين السرايا، وبينها وبين حكومة توفيق نسيم باشا، رغم مرور عام على توليها دون أن يعود لمصر دستورها، جاء التصريح ليستفز الشعور الوطني للمصريين ويؤدى إلى التقارب بين صفوف المعارضة، لكن ما الذي استفز الناس فيما قاله هور؟
 لقد جاء في تصريحه: "لا صحة إطلاقا إننا نعارض في عودة النظام الدستوري لمصر، بشكل يتفق مع احتياجاتها، فنحن انطلاقا من تقاليدنا لا نريد أن نقوم بذلك ولا يمكن أن نقوم به، فقط عندما استشارونا في الأمر، أشرنا بعدم إعادة دستور 23 ولا دستور 30، لأنه قد ظهر أن الأول غير صالح للعمل به، والثاني غير مرغوب فيه".
صمويل هور
 لقد فضح التصريح حكومة نسيم التي لا تستطيع أن تأخذ خطوة تعد من صميم أعمال السيادة إلا بعد استئذان الحكومة البريطانية، كما كشف حقيقة موقف بريطانيا المعادي لعودة دستور 23.
 كان رد الفعل الشعبي سريعا وقويا، فقد نشرت صحف 10 نوفمبر 1935 التصريح مهاجمة إياه، وفي يوم 11 نوفمبر جاءت المبادرة من جانب الطلاب، فاجتمعت اللجنة التنفيذية العليا التي تمثل إتحاد طلاب الجامعة، وأصدرت نداء وطنيا نشرته صحف 12 نوفمبر، دعت فيه إلى أن يحتفل طلبة الجامعة والأمة بهذا اليوم احتفالا يليق بجلال هذه الذكرى، وأعلن بيان اللجنة بدء الجهاد من أجل الدستور والاستقلال، وكان الطابع الغالب على الحركة عند بدايتها، الوحدة والبعد عن التحزب. وفي نفس اليوم بدأ تحرك في الوفد للإعداد لموقف يعلنه رئيس الحزب مصطفى النحاس في الاحتفال بعيد الجهاد الوطني.
 وفي صبيحة يوم 13 نوفمبر خرجت المظاهرات من الجامعة ومن دار العلوم والأزهر وبعض المدارس الثانوية في القاهرة وخارجها تهتف في الشوارع "يسقط هور ابن التور"، وتدعو زعماء الأحزاب إلى توحيد الصفوف من أجل استعادة الدستور.
 واستمرت المظاهرات التي وصفها المؤرخون بأنها ثورة الشباب واعتبروها تقارب في قوتها وأهميتها ثورة 1919، وكانت مظاهرة 14 نوفمبر من أقوى هذه المظاهرات، وقد دفعت قوتها الحكومة إلى اتخاذ قرارا بإغلاق الجامعة ظلت تجدده حتى تهدأ ثورة الطلبة، لكن الثورة تواصلت لعدة أيام وسقط فيها عشرات الجرحى والشهداء في مقدمته محمد عبد المقصود شبكة ومحمد محمود النقيب من طنطا والعامل اسماعيل محمد الخالع الذي استشهد عند بيت الأمة يوم 13 نوفمبر، واستشهد عبد المجيد مرسي الطالب بكلية الزراعة في مظاهرة 14 نوفمبر وعلي طه عفيفي الطالب بدار العلوم يوم 16 نوفمبر.
 لكن أشهر هؤلاء الشهداء الذين غيروا تاريخ مصر بدمائهم كان الشهيد محمد عبد الحكم الجراحي شهيد كلية الآداب الذي أصيب بالرصاص في مظاهرة 14 نوفمبر واستمر يصارع الموت خمسة أيام، وكانت متابعة الصحافة لإخباره يوما بيوم سببا في التفاف مشاعر الأمة حول الشاب الذي كان في العشرين من عمره، وكانت الرسائل التي يبعث به من سريره وهو بين الحياة والموت سببا في حفز همم المصريين واشتعال الموقف ضد حكومة نسيم وضد الاحتلال، فقد بعث إلى مستر بلدوين رئيس وزراء بريطانيا رسالة قال في مطلعها إلى بريطانيا روح الشر، وعدد فيها مظاهر عدوان بريطانيا على الشعوب وتنبأ بقرب زوال إمبراطوريتها، كما بعث برسالة أخرى إلى زملائه قال فيها: "إخواني الأعزاء: إني أشكر لكم شعوركم السامي بالنسبة لما أديته، وأعتبره أقل من الواجب في سبيل البلد الذي وهبنا الحياة بل وهب الحضارة للعالم".
عبد الحكم الجراحي
 عندما علم الطلاب بنبأ وفاة الجراحي قرروا أن يشيع جثمانه في جنازة شعبية تليق به وبالقضية التي استشهد من أجلها، وتناوبوا على حراسة الجثمان حتى لا تختطفه الحكومة ليدفن في صمت مثلما حدث مع زميله الشهيد عبد المجيد مرسي، وخرجت الجنازة من مستشفى قصر العيني يتقدمها مصطفى النحاس وأحمد لطفي السيد رئيس الجامعة ومنصور فهمي عميد كلية الآداب وعشرات من الساسة المصريين من مختلف الاتجاهات وزعماء النقابات المهنية والعمالية، وآلاف الطالبات والطلاب، وتقدم العلم المصري الأخضر الجنازة وتوجهت الجنازة إلى مسجد السيدة زينب حيث صُلي على الجثمان، ومن هناك إلى المدافن، وكان الطريق محفوفا بآلاف المواطنين يهتفون لمصر ولشهيدها، وأصوات النساء ترتفع من الشرفات والشبابيك مودعة جثمان عبد الحكم في رحلته الأخيرة.
 وقد غطت الأهرام الجنازة تغطية تفصيلية، وجاء في كلمة التحرير: "لقد شهدنا أمس أول بوادر الائتلاف الحقيقية في مأتم المغفور له محمد عبد الحكم الجراحي، فقد حقق هذا الفتى المعجزة التي حبطت دونها جهود المفكرين، إذ اجتمع وراء نعشه جميع رؤساء الهيئات والأحزاب، ساروا صفا واحدا وقد نسوا كل شيء إلا الضحية الغالية التي تسير الهوينة على أعناق الرفاق ملفوفة في علم البلاد."
 لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فما الذي حدث بين تشيع الجراحي يوم 19 نوفمبر وعودة الدستور يوم 12 ديسمبر 1935؟
الدستور 16 مايو 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق