الأحد، 4 يونيو 2017

الشيخ المتمرد... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الشيخ المتمرد...
عماد أبو غازي
 كان طه حسين الذي ولد في شهر نوفمبر من عام 1889 أحد أبرز متمردي جيله، جيل النهضة المصرية، فقد كانت قصة حياة الرجل مسيرة طويلة من التمرد بدأت بتمرده على ظروفه، خاصة فقد البصر الذي عانى منه منذ طفولته المبكرة، ففي مصر كان آلاف الأطفال يفقدون أبصارهم بسبب التلوث والجهل وانخفاض مستوى الرعاية الطبية، كانت أمراض بسيطة في العيون يمكن علاجها أو حتى الوقاية منها كفيلة بأن تحرم الآلاف من أطفال مصر نعمة البصر، وبخلاف أولئك الآلاف من الأطفال جعل الطفل طه حسين من إصابته دافعًا للانطلاق، كانت طاقة التمرد داخل الطفل الصعيدي الصغير ابن محافظة المنيا كفيلة بأن تجعله يتجاوز أزمته ومعاناته في الطفولة والصبا، تلك المعاناة التي وصفها في الجزء الأول من سيرته الذاتية "الأيام"، والتي تعد هي الأخرى صورة من صور تمرده، تمرده الذي تخطى به قيود فقدان البصر مكتسبًا البصيرة النافذة التي تتطلع إلى مستقبل لبلده يحترم فيه الإنسان وتحترم قيمة العقل وطاقة الإبداع.


 من نقطة البداية تلك انطلق طه حسين ليصبح العميد الذي يقود ببصيرته أمته إلى شواطئ الحداثة، إنها الحالة التي عبر عنها الشاعر الكبير نزار قباني تعبيرًا عبقريًا في مرثيته للعميد: "حوار ثوري مع طه حسين"، والتي استهلها ببيت من أروع ما كتب:
"ضوء عينيك ... أم هما نجمتان
كلهم لا يرى ... وأنت تراني..."
 وقال فيها واصفًا المسافة بين البصر والبصيرة عند طه حسين:
"ضوء عينيك ... أم حوار المرايا
أم هما طائران يحترقان؟
هل عيون الأديب نهر لهيب
أم عيون الأديب نهر أغاني؟
آه يا سيدي الذي جعل الليل
نهارا ... والأرض كالمهرجان
ارم نظارتيك كي أتملى
كيف تبكي شواطئ المرجان
ارم نظارتيك ... ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان...
وحدك المبصر الذي كشف النفس
وأسرى في عتمة الوجدان..."
 ومثل كثيرين من أبناء جيله انتقل طه حسين الشاب من بلدته في صعيد مصر إلى القاهرة محققا طموح أسرته بالتحاقه بالأزهر الشريف، ليدرس فيه علوم الدين ويتخرج منه شيخا أزهريا يردد ما ردده من قبله العشرات والمئات بل والآلاف من خريجي تلك المؤسسة التعليمية التقليدية العريقة، لكن روح التمرد والتحدي التي تلبست الشاب، وأحوال "المؤسسة" دفعته إلى رفض الأزهر وأحواله والتمرد عليها، وسرعان ما تحول إلى الجامعة الأهلية ليلتحق بها طالبًا دارسًا يتلقى العلم الحديث، تلك الجامعة الأهلية التي كانت تتويجًا لنضال المفكرين والساسة في مصر، والتي افتتحت أبوابها في ديسمبر من عام 1908، لتكون مؤسسة تعليمية مدنية حديثة على غرار الجامعات الأوروبية، وتشكل النواة للجامعة المصرية التي أصبحت جامعة حكومية منذ عام 1925.
 كان التحاق طه حسين بالجامعة الأهلية نقطة تحول في حياته، وفي حياة مصر، فقد كسب طه حسين معارف جديدة خاصة بعد أن يسرت له دراسته في الجامعة أن يلتحق ببعثة دراسية في فرنسا ليحصل على درجة الدكتوراه من هناك، وكسبت مصر مفكرًا مستنيرًا  صاحب مشروع متميز للنهوض بالبلاد، لقد كان مشروع طه حسين مشروعًا للتمرد على الثوابت البالية للأمة، كان دعوة لإعمال العقل وإتباع المنهج النقدي مستخدمًا الشك المنهجي الديكارتي في محاولة لتجاوز الواقع نحو آفاق المستقبل، وقد بلور طه حسين ملامح مشروعه في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الذي صدر سنة 1938، عندما عهد إليه بكتابة تقرير عن إصلاح التعليم ووضع رؤية إستراتجية له، فكان ذلك الكتاب الذي قدم فيه رؤية متجاوزة للواقع متمرده على قيم المجتمع التي تعيق تطوره.
 وفي تاريخ طه حسين مع التمرد محطات يمكن الوقوف عندها: أهمها محطة "في الشعر الجاهلي"، ذلك الكتاب البحثي الذي نجح من خلاله طه حسين في أن يسير الجدل ويحرك ركود المجتمع الأكاديمي والثقافي، عندما استخدم منهج الشك في بحثه في قضية من قضايا التراث العربي، قضية الشعر الجاهلي، فأثار ما أثار من اعتراض، واستفز من استفز من قوى الجمود والتخلف في المجتمع، وبغض النظر عن نتيجة المعركة والتي اضطر في نهايتها طه حسين إلى إصدار طبعة معدلة من كتابه بعنوان "في الأدب الجاهلي"، فقد نجح طه حسين في إرساء أسس التمرد على منهج النقل والإتباع والانتصار لمنهج النقد والإبداع.
 المحطة الثانية كانت تمرده على تدخل الدولة في شؤون الجامعة في الثلاثينيات من القرن العشرين، وفي ظل الحكم الاستبدادي لإسماعيل باشا صدقي، وحرصه على استقلال الجامعة عندما رفض منح درجة الدكتوراه الفخرية من كلية الآداب لمن لا يستحقها من رجال السياسية، ذلك التمرد الذي أدى إلى عزله من عمادة كلية الآداب ونقله من الجامعة، وهي الواقعة التي استقال بسببها أحمد لطفي السيد باشا من رئاسة الجامعة في 9 مارس 1932، التاريخ الذي اتخذت منه حركة أعضاء هيئة التدريس لإصلاح الجامعة والدفاع عن استقلالها اسما لها، ومن يومها منح أهل الثقافة والفكر والأدب لطه حسين لقب "عميد الأدب العربي" تحديا لحكومة صدقي، ولم تمض إلا سنوات قليلة إلا وكان صدقي باشا قد غادر كرسي الحكم متبوعا باللعنات، وعاد طه حسين إلى الجامعة محمولا على أعناق طلابه.
  ثم كانت دعوته لمجانية التعليم عندما تولى وزارة المعارف في حكومة مصطفى النحاس الأخيرة دعوة طموحه لإتاحة فرصة التعليم أمام آلاف المتمردين الجدد، فضلًا عن أنها كانت تحديا لطبقية المجتمع.
واختم ببيتين من حوار نزار الثوري مع طه حسين المتمرد المتحدي:
"أنت أرضعتنا حليب التحدي
فطحنا النجوم بالأسنان...
واقتلعنا جلودنا بيدينا
وفككنا حجارة الأكوان".
الدستور 15 نوفمبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق