الاثنين، 12 يونيو 2017

مناضلون على طريق الحرية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مناضلون على طريق الحرية
عماد أبو غازي
 لقد نجح صدقي في تشكيل برلمانه المزور على حساب مئة شهيد مصري ومئة وخمسة وسبعون جريحًا من بين عشرات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع ليتصدوا للتزوير، وجاء البرلمان ليقر بعد عام واحد من تشكيله اتفاقية التنازل عن واحة جعبوب في الصحراء الغربية لإيطاليا التي كانت تحتل ليبيا وقتها، وهي الاتفاقية التي وقعها زيور باشا سنة 1925 في الانقلاب الدستوري الأول ورفضت جميع البرلمانات على مدى 7 سنوات التصديق عليها، كما شدد العقوبة في قضايا النشر، وبدأت سنوات من اضطهاد الوطنيين وأنصار الديمقراطية في مصر والتنكيل بهم ما بين سجن واعتقال وإبعاد عن الوظائف وملاحقة في لقمة العيش.
 كان على المصريين أن يتخذوا القرار، إما الرضوخ لفؤاد وصدقي وتسليم أنفسهم للطغاة، أو المواجهة والدفاع عن حريتهم.
 كان القرار واضحًا النضال من أجل استعادة دستور الأمة، وبالفعل نجح المصريون بعد خمس سنوات من الكفاح في تحقيق هدفهم، لكن لم يستعد المصريون دستورهم ومعه حريتهم "بالساهل"، كان الطريق طويل وشاق، وكان المصريون قادرون على دفع الثمن ومستعدون لتحمله، كان الثمن غاليًا لكن الحرية كانت أغلى عند المصريين، لقد اشتركت النخبة في دفع الثمن قبل الجماهير، وقادت حركتها، لم يقبع زعماء الأمة في بيوتهم أو قصورهم، بل خرجوا إلى الشوارع وطافوا المدن والقرى والنجوع يدعون الشعب للتصدي للاستبداد، بات النحاس باشا على أرصفة محطات القطارات، وتصدى بصدر مفتوح لرصاص بوليس صدقي وجيشه، وتعرض لأكثر من محاولة لاغتياله، لكنه لم يتراجع.


 كذلك تصدى قادة الرأي والفكر للملك ورئيس حكومته صدقي، فكتب العقاد سلسلة من المقالات هاجم فيه الملك هجومًا شديدًا، ومما قاله فيها:
 "فليعلم المصريون جميعًا أن مصيبة الرجعية على هذا البلد أكبر من مصيبة الاحتلال، وإنها هي التي مهدت له واستعانت به، وأوقعت البلاد في البلاء الذي يعانيه. فلولا كراهة الدستور القديمة في نفوس هؤلاء الرجعيين، ولولا التكبر عن الاعتراف للفلاحين العبيد بالحرية والحكومة العصرية، لما حدثت في مصر تلك الأحداث التي نعاني من جرائرها إلى اليوم ... فالرجعية هي السوس الناخر في أبدان الأمة من قديم الزمن، والرجعية هي أصل المصاب وسبب الاحتلال، وهي العدو الأكبر الذي يجب أن يبرز على حقيقته ليكون الجميع على بينه من أمره."
 وواضح طبعا أن العقاد كان يقصد بحديثه عن الرجعية الملك وأسلافه من أسرة محمد علي، وكان رد الحكومة القبض على العقاد وإحالته هو وصاحب امتياز جريدة المؤيد التي نشرت مقالته للمحاكمة بتهمة العيب في الذات الملكية، وصدر الحكم بحبس صاحب الامتياز 6 أشهر وحبس العقاد تسعة أشهر، ويوم خروجه من السجن توجه إلى ضريح سعد زغلول قبل أن يذهب إلى بيته وألقى قصيدته الشهيرة التي تعهد فيها بمواصلة النضال من أجل الدستور وقال في مطلعها: "كنت جنين السجن تسعة أشهر".
 أما شاعر النيل حافظ إبراهيم فقد دخل الميدان بقصائده التي قال في واحدة منها هاجيًا صدقي وعهده:
قد مر عام يا سعاد وعام
  وابن الكنانة في حماه يضام
صبوا البلاء على العباد فنصفهم
  يجبي البلاد ونصفهم حكــام
أشكو إلى قصر الدوبارة ما جنى
  صدقي الوزير وما جبى علام
ويختمها بقوله موجها الحديث لصدقي:
ودعا عليك اللهَ في محرابه
         الشيخ والقسيس والحاخام
 وإذا كان العقاد قد سجن فإن حافظ قد فصل من عمله في دار الكتب.
 وكان نصيب طه حسين الإبعاد من الجامعة التي كان عميدًا لكلية الآداب بها، بسبب رفضه تنفيذ تعليمات الحكومة بمنح الدكتوراه الفخرية لمن لا يستحقها، وقد استقال أحمد لطفي السيد من منصبه كمدير للجامعة المصرية احتجاجًا على قرار إبعاد طه حسين، وكانت هذه الاستقالة يوم 9 مارس سنة 1932، اليوم الذي أضحى في أيامنا هذه اسمًا لحركة أساتذة الجامعات من أجل استقلال الجامعة تخليدًا لمفكر حر اتخذ موقفًا في مواجهة الطغيان دفاعًا عن استقلال الجامعة.
 ولم تسلم الفنون الجميلة من تعسف صدقي ورجاله، وكان العدوان على الحرية هذه المرة موجها لتمثالي مختار لزعيم الأمة سعد زغلول، وكانت الحكومة عقب وفاة سعد في أغسطس 1927 قد كلفته وتعاقدت معه على إقامة تمثالين للزعيم في القاهرة والإسكندرية، وبمجرد أن تولى صدقي الحكم بدأ في عرقلة إجراءات إقامة التمثالين في الموضعين المتفق عليه، مرة بدعوى ارتفاع القاعدتين عن قاعدتي تمثال محمد علي مؤسس الأسرة العلوية بميدان المنشية والتمثال المنتظر لإسماعيل باشا بميدان قصر النيل، ومرة بدعوى الحاجة إلى تشكيل لجنة من ذوي الذوق للحكم على التمثالين، فلجأ  مختار إلى القضاء للدفاع عن تمثالي الزعيم، وكما يقول بدر الدين أبو غازي في كتابه المثال مختار:
 "كانت القضية مظهرًا من مظاهر النكسة التي أصابت عصره وعطلت طاقات الإبداع والانطلاق، كانت أكبر من أن تكون نزاعًا بين فرد وحكومة، كانت مظهر تجمع قوى الرجعية ضد إرادة الشعب ممثلة في هذا الفنان الذي أخذ يعد لإقامة تمثال يخلد ملحمة الكفاح الشعبي في رمز زعيم تلك الحقبة سعد زغلول، من أجل هذا كانت قضية المثال مختار كما سمتها صحف العصر حلقة في خط المقاومة الذي أقامه الحكم الرجعي المطلق بعد سنة 1930 في مواجهة المفكرين، حين كانت الحرية مغلولة والرأي مقيدًا. وجيل المفكرين والفنانين يعود ليلتقط الأسلحة التي ألقاها ليرد بها العدوان عن حرياته الأساسية وعن القيم التي ظفر بها في السنوات التي تلت ثورة 1919."

الدستور 25 أبريل 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق