الجمعة، 16 يونيو 2017

مخربشات معرفة أنفسنا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
معرفة أنفسنا ...
عماد أبو غازي
 تنتهي اليوم أعمال الحلقة البحثية التي نظمها المجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع مركز العالم العربي للدراسات المتقدمة في بريطانيا عن إنتاج المعرفة عن العالم العربي والتي توالت أعمالها على مدار ثلاثة أيام.
 وقد فكرت في مشروع هذه الحلقة البحثية وخططت لها الباحثة المصرية المتميزة الدكتورة هدى الصدة أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، والتي تعمل حاليا أستاذة للدراسات العربية بجامعة مانشستر بالمملكة المتحدة، وفي نفس الوقت تعمل كمديرة مشاركة للمركز الذي يعد مشروعا مشتركا بين جامعات مانشستر وأدنبرة ودارهم، وقد أشرف على إعداد الحلقة البحثية من الجانب المصري الناقد والأكاديمي الكبير الدكتور جابر عصفور، وبدأ الإعداد لهذه الحلقة البحثية منذ عدة شهور.
 وتهدف هذه الحلقة البحثية إلى توفير فرصة لتبادل الخبرات والآراء بين الباحثين الأوروبيين والباحثين العرب والمصريين حول إنتاج المعرفة عن العالم العربي من داخله ومن خارجه، وإلى تنمية التفكير النقدي حول إنتاج المعرفة، والقضية شديدة الأهمية في عالمنا المعاصر، فالإنتاج الفكري والمعرفي حول مجتمع من المجتمعات أو قضية من القضايا يشكل في أذهاننا صورة هذا المجتمع ويعرفنا بجوانب تلك القضية.
 وقد تناولت الحلقة البحثية الأطر المعرفية السائدة في الدراسات حول العالم العربي في تخصصات مختلفة مثل التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، في محاولة لرصد ما تم إنتاجه من أبحاث ودراسات في العالم العربي وخارجه عن العالم العربي نفسه في تلك التخصصات، كما ناقشت الحلقة كذلك آليات تشكيل موضوعات البحث خاصة تلك الموضوعات التي تتناول فئات خاصة في المجتمعات العربية، مثل الأبحاث التي تدور حول المرأة العربية، أو دراسة أوضاع الأقليات وقضاياها في منطقتنا العربية، كما خُصصت جلسة لمناقشة دور المؤسسات ومراكز الأبحاث التي تدعم  الدراسات عن العالم العربي في كل من أوروبا والولايات المتحدة، وكذلك في بلدان العالم العربي.
 وقد شارك في الحلقة البحثية أكثر من ثلاثين باحثًا وباحثة من مصر ولبنان والأردن والولايات المتحدة واستراليا وإنجلترا وإيطاليا، يمثلون عشرة مؤسسات بحثية وأكاديمية مختلفة، ويعبرون عن اتجاهات فكرية وبحثية متنوعة، مما شكل عنصرا لإثراء النقاش في هذه الحلقة.
 وقد حاولت أن أختار مدخلًا يربط بين المعرفة التاريخية لعالمنا العربي، خاصة في فترة العصور الوسطى، والوثائق، من خلال مناقشة دور الوثائق العربية ـ باعتبارها مصدرا من مصادر دراسة التاريخ ـ في إنتاج معرفة جديدة عن تاريخ العالم العربي في الفترة الممتدة من ظهور الإسلام حتى نهاية العصر العثماني.
 لقد ظهر الاهتمام بالوثائق العربية كمصدر لدراسة تاريخ المنطقة مع كشوف البردي العربي التي بدأت في بدايات القرن التاسع عشر، وكانت الجهود الأولى على يد بعض علماء أوروبيين، ثم انتقل الاهتمام إلى المتخصصين في العالم العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فظهرت الأعمال الأولى المعتمدة على الوثائق، بفضل جهود ثلاثة من الرواد الأوائل في هذا المجال وهم: علي باشا مبارك وأمين سامي باشا وعلي بك بهجت الأثري، وقد كان لكل منهم إسهاما مختلفا في مجال الدراسات الوثائقية. فقد كان علي باشا مبارك أول مصري يستخدم الوثائق كمصدر للمعلومات في عمله الضخم "الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة"، خاصة في جزئيه الثاني والثالث، حيث استند إلى حجج الوقف ـ التي كانت تحت يده بحكم توليه نظارة الأوقاف ـ في وصف المباني المنشئات المختلفة في القاهرة، وفي تتبع أوضاع الملكية العقارية في المدينة، كما استعان بدفاتر الحيازة الزراعية ـ بحكم توليه نظارة الأشغال ـ في تحديد مساحات القرى في أقاليم مصر المختلفة، فقدم بذلك عملا رائدا، هو الأول في مجاله من حيث أنه جاء موثقًا توثيقًا علميًا مستندًا إلي الحجج الشرعية والدفاتر المالية.
 أما أمين سامي باشا فقد ارتبط اسمه بمؤلَف مهم هو "تقويم النيل"، الذي يمت إلى الدراسات الوثائقية بصلة مركبه، فمن ناحية اعتمد صاحب التقويم في تأليف عمله على الوثائق بشكل أساسي، ومن ناحية ثانية ضمن الكتاب نصوصا كاملة لعدد كبير من الوثائق الرسمية، مع صور لبعض هذه الوثائق، فجاء الكتاب وكأنه سجل وثائقي تاريخي جامع لأهم وثائق القرن التاسع عشر.
 وإذا كان إسهام علي مبارك وأمين سامي في الدراسات الوثائقية جاء من خلال اعتمادهما على الوثائق بشكل أساسي في مؤلفيهما، ونشرهما لنصوص كاملة من الوثائق أو لمقتطفات منها، فإن إسهام علي بك بهجت ـ الأثري المصري الرائد في حقل الآثار الإسلامية ـ كان أكثر وضوحا ومباشرة، فهو أول مصري ينشر الوثائق العربية نشرا علميا وفقا للقواعد الحديثة في دراسة الوثائق، ففي عام 1898 نشر مقالًا بمجلة الموسوعات في عددها الأول الصادر في 15 نوفمبر بعنوان "نبذة تاريخية شرعية" ضمنه دراسة لوثيقة زواج عبد الله جاك مينو وزبيدة الرشيدية، مع نشر لها، وخلال القرن العشرين ـ ومع انتشار الوعي الأرشيفي في العالم العربي ـ اتسع اهتمام الباحثين في مجالات التاريخ والآثار بالوثائق كمصدر للمعرفة التاريخية، كما ظهرت أقسام أكاديمية متخصصة في الوثائق منذ خمسينيات القرن الماضي.
 وقد قادت دراسة الوثائق والتعامل معها باعتبارها مصدرًا تاريخيًا إلى فتح مجالات جديدة في الدراسات التاريخية حول العالم العربي لم تكن المادة المتاحة في المصادر التقليدية لدراسة التاريخ تسمح بها، خاصة في حقل دراسات التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وقد قدمت الوثائق تفاصيل جديدة عن حياة البشر في تلك المنطقة من العالم، وإذا كانت الوثائق تقدم تفاصيل صغيرة جديدة متفرقة، فإن هذه التفاصيل الصغيرة المستنبطة من الوثائق عندما تتجمع جنبا إلى جنب وتتراكم فوق بعضها تغير في النهاية كثيرا مما كان يعد "معرفة" تاريخية راسخة عن العالم العربي، وتجعلنا أمام معرفة جديدة نحن في أمس الحاجة إليها حتى نعرف أنفسنا، نعرف ماضينا حتى نستطيع أن ندير حاضرنا وننطلق نحو مستقبلنا.

الدستور 4 يوليو 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق