السبت، 3 يونيو 2017

التمرد الخلاق... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
التمرد الخلاق...
عماد أبو غازي

 استعرت عنوان هذا المقال من "الكلمة/الدراسة" التي ألقاها الدكتور جابر عصفور في افتتاح الحلقة البحثية التي نظمها المجلس الأعلى للثقافة في مصر بالتعاون مع مركز دراسات إبسن بجامعة أوسلو والسفارة النرويجية بالقاهرة عن الكاتب المسرحي الكبير هنريك إبسن بمناسبة المئوية الأولى لرحيله، والتي حملت عنوان "إبسن بين الغرب والشرق"، وقد أشار في تلك الكلمة إلى الدور المهم الذي لعبه إبسن في تأسيس فن الكتابة المسرحية الحديثة في العالم، وإلى إسهامه في تغيير قيم مجتمعه ومفاهيمه والانطلاق بها نحو الحداثة، وقد وصف تحطيمه للقيم البالية بـ "التمرد الخلاق"، وقد رأيت في هذا الوصف عنوانًا ملائمًا للفكرة التي أكتب عنها حول ارتباط النهضة بالتمرد في تاريخنا الحديث والمعاصر.
 ففي اعتقادي أنه لابد لكي نتحدث عن النهضة أو عن التحديث من أن نبحث عن التمرد، فالنهضة وليدة التمرد ولا يمكن أن تتحقق النهضة أو تقوم بدون أن يكون هناك جيل من المتمردين على أوضاعهم وعلى أوضاع مجتمعهم، وهذا ما تحقق لمصر في النصف الأول من القرن العشرين عندما ظهر جيل شيد معالم نهضة جديدة في مصر، تميز معظم رجاله ونسائه بالتمرد على التقاليد البالية وعلى الثوابت المجتمعية، فالنهضة هدم لثوابت وبناء لثوابت جديدة مكانها، ثوابت تحل محل الثوابت القديمة إلى أن تبلى هي الأخرى فنصبح في حاجة إلى ثورة جديدة عليها.


 ولو نظرنا إلى جميع رواد النهضة والتحديث من أمثال طه حسين وهيكل والعقاد وتوفيق الحكيم ومختار وسيد درويش، فسنجد إن كل منهم كان متمردًا على الأشكال التقليدية في النوع الفني أو في المجال الإبداعي الذي برع فيه، كما أنه كان متمردًا أيضًا على قيم وتقاليد وثوابت المجتمع التي كانت تحتاج إلى تغيير.
 كان طه حسين متمردًا بطرحه منهج الشك في كتاباته، وكان العقاد متمردًا في السياسة ومتمردًا في الشعر وفي النقد الأدبي، وكان هيكل متمردًا عندما كتب رواية "زينب"، كان سيد درويش متمردًا في ألحانه وأغنياته على الغناء والموسيقى بصورتهما التقليدية التي عرفتها مجتمعاتنا، وكان مختار وراغب عياد وجيلهما من الفنانين التشكيلين متمردين على تقاليد المجتمع المتحفظة، وعلى الأشكال الفنية السائدة عندما جعلوا من الإنسان المصري رمزًا في العمل الفني وموضوعًا له، وغيرهم كثيرين من أبناء جيل النهضة والتحديث في مطلع القرن العشرين، الذين ارتبطوا بشكل أساسي بالثورة المصرية، ثورة 1919.
 لقد تولدت لدى نخبة هذا الجيل المثقفة روح التمرد والثورة والرغبة في التغيير بفضل الظروف التي صاحبت مولدهم وتنشئتهم. فقد شهدت مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر محاولة جديدة للنهضة بعد محاولة محمد علي التي انتهت بالفشل، وبدأت هذه المحاولة في عصر الخديوي إسماعيل، وامتدت إلى مجالات مختلفة في الثقافة وفي السياسة وفي مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وأحدثت تحولات مهمة في الحياة المصرية، لقد شهدت تلك السنوات تغير وجه الحياة المصرية، كانت المدينة المصرية تتغير وكذلك كانت القرية تتغير، كانت مصر تشهد حركة تحول من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، تنشأ وتظهر فيه أشكال فنية جديدة لتحل محل الأشكال التقليدية، وفي هذه الفترة أُنشئت دار الأوبرا المصرية، وقدمت عليها عروض الأوبرا لأول مرة، وبدأت فرق مسرحية من الشام تأتي لتعمل على المسارح المصرية سرعان ما شارك فيها المصريون، وبدأت فنون الموسيقى والغناء تتطور نحو اتجاهات جديدة اكتملت وتبلورت بعد ذلك في القرن العشرين، وبدأت فنون النحت والتصوير الأوروبية تنتشر في المجتمع المصري حيث كان يقوم بمباشرتها فنانون أوروبيون أزاحوا تدريجيًا الأشكال الفنية التقليدية التي كانت متواجدة في هذه الفترة.
لقد انتهت تجربة التحديث في عصر إسماعيل مثل تجربة محمد علي إلى الفشل بعد هزيمة الثورة العرابية والاحتلال البريطاني لمصر، انتهت بكبوة ثانية، وعاشت مصر في فترة ظلام مرة أخرى تحطمت فيها مشروعات النخبة المصرية لتحقيق الديمقراطية ولبناء مجتمع مستقل ودولة حديثة.
 وفي هذه الفترة المليئة بالتحولات، التي عاشت فيها مصر بين مد وجزر، بين نهوض وإخفاق، بين أحلام بناء مصر للمصريين وواقع سقوطها في قبضة الاحتلال، في ظلال هذه الفترة ولد معظم الرواد من أبناء الجيل الذي قامت على أكتافه النهضة المصرية في حلقتها الثالثة في النصف الأول من القرن العشرين.
 ففي سنوات الاحتلال الأولى ولد من أصبحوا فيما بعد رواد نهضتنا الحديثة، لكن تكوينهم المتمرد الساعي إلى التغيير تشكَّل في ظل محاولة جديدة للإحياء والنهوض والبعث الوطني بدأت بعد الرحيل المبكر للخديوي توفيق عام 1892، وتولى الخديوي عباس حلمي الثاني عرش مصر، فقد حاول وهو حاكم شاب أن يستعيد سلطاته من الاحتلال البريطاني، الأمر الذي دفعه إلى الاستعانة بالشباب الوطني الذي بدأ في الظهور في هذه الفترة بزعامة مصطفى كامل، كما دفعه لمحاولة الاصطدام مع المستعمر البريطاني مستندًا إلى بقايا الحركة الوطنية التي كانت موجودة في مصر، فقرر العفو عن عبد الله نديم خطيب الثورة العرابية ليعود من المنفى مستأنفًا نشاطه.
 في ظل هذا المناخ، ولد ذلك الجيل من أبناء الريف المصري الذين صنعوا النهضة، نشأ معظمهم في الريف ثم انتقلوا إلى المدينة في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين واحترفوا "التمرد الخلاق"، فوضعوا أسس النهضة، وكان لكل واحد منهم حكاية مع التمرد.

الدستور 1 نوفمبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق