الاثنين، 5 يونيو 2017

المرأة المصرية صانعة الحضارة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
المرأة المصرية صانعة الحضارة

عماد أبو غازي

 لم يكن ما حدث في ثورة 1919 والسنوات التي تلتها فيما يتعلق بأوضاع المرأة المصرية من تحولات إيجابية متمثلة في إنهاء تحجبها واحتجابها أمرا مستغربا بل كان تصحيحا لأوضاع وتشوهات تعرض لها وضع المرأة المصرية في بعض قطاعات المجتمع وطبقاته، خاصة الطبقات العليا، لقد كان خروج هدى شعراوي وزميلاتها ومن سار على دربها من بنات مصر ونسائها إلى العمل العام استعادة لحقوق سلبت منهن في عصور الظلام والإظلام، فللمرأة المصرية تاريخ طويل مشرق.
  فمنذ بزوغ فجر التاريخ المصري والمرأة المصرية تقوم بدورها في مساعدة الرجل المصري في إرساء دعائم واحدة من أقدم الحضارات الإنسانية، ويحفل تاريخ المرأة المصرية ـ هذا التاريخ الطويل الممتد عبر آلاف السنين ـ بالإنجازات العظيمة، بل إن المرأة المصرية هي الصانعة الأولى للحضارة في هذا البلد، فالموجة الأولى من موجات الحضارة الإنسانية، الثورة الزراعية، كانت من عمل المرأة، ووادي النيل كان من بين أقدم مناطق العالم التي شهدت انطلاق هذه الثورة التي صنعتها المرأة.


 لقد احتلت المرأة منذ أقدم العصور مكانة متميزة ومميزة في المجتمع المصري، لم تصل إليها مثيلاتها في معظم المجتمعات القديمة الأخرى المعروفة لنا. فقد تميزت الحضارة المصرية القديمة باحترام شديد لوضع المرأة، وتمتعت النساء في مصر القديمة بحقوق اجتماعية واقتصادية وقانونية وسياسية مساوية لما كان للرجل من حقوق.
 لقد كان الزوجان المصريان القديمان يبدوان كالأزواج العصريين إلى حد بعيد، بصورة غير متكررة في الحضارات القديمة الأخرى، فكان للرجل زوجة واحدة تحمل لقبه، وكانت للزوجة حقوق مساوية لحقوق زوجها في إدارة شؤون الأسرة، كما كانت تتمتع بحقوق الملكية الخاصة والأهلية القانونية الكاملة، وكان من حقها إدارة شئونها المالية دون رقيب أو وصي، وكانت هناك مساواة كاملة أمام القانون بين الرجل والمرأة في التشريعات المصرية القديمة، عكس ما شهدته حضارات أخرى مثل حضارات العراق القديمة والحضارة اليونانية، كما كانت الفلاحة المصرية دوما منذ أقدم عصور التاريخ المصري حتى الآن مشاركة لزوجها في العمل والإنتاج.
 وقد عبر الفن المصري القديم عن مكانة المرأة المساوية للرجل من خلال مختلف أشكال التعبير الفني، ومن زار منا المتحف المصري أو المقابر والمعابد المصرية القديمة يمكن أن يتذكر كيف تبدو المرأة في اللوحات الجدارية والتماثيل، إنها تبدو دائما مساوية لزوجها في الطول والحجم، كما تصور الأعمال الفنية التي ترجع إلى عصور الحضارة المصرية القديمة مشاركة المرأة للرجل في مختلف أنشطة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية والترفيهية والأسرية.
 وفي كل عصور الاحتلال الأجنبي حاول الغزاة فرض تقاليدهم وعاداتهم وقوانينهم التي تميز بين الرجل والمرأة لصالح الرجل، والتي تحط من شأن المرأة. فقد حاول البطالمة عندما حكموا مصر بعد استيلاء الإسكندر الأكبر عليها سنة 332 ق.م.، أن يفرضوا القيم اليونانية التي تقوم على التمييز بين الرجل والمرأة لصالح الرجل، فأصدر بطليموس فيلوباتور قانونا عرف باسمه سنة 222 ق.م.، نص على حرمان المرأة المصرية من حق التصرف في أملاكها، كما حرم على الرجل طاعة سواء كانت زوجته أو أمة أو ابنته، وأعطى القانون للرجل حق التصرف في كل ما يتصل بشئون من يمت له بصلة من النساء.
 لكن التقاليد المصرية كانت أقوى على ما يبدو من التشريعات البطلمية ومن بعدها التشريعات الرومانية، ويدل على ذلك أن الوضع المميز للمرأة المصرية كان لافتا لنظر الرحالة والمؤرخين من غير المصريين منذ زار هيردوت مصر في القرن السادس قبل الميلاد، فقد لفت انتباهه المكانة التي تحتلها المرأة المصرية في إدارة شئون الأسرة والمجتمع، واعتبر أنها صاحبة القرار الأول والأخير في الحياة المصرية، كما لفتت هذه الظاهرة بعد ذلك عبر العصور انتباه الرحالة والمؤرخين من أمثال ديودور الصقلي والمقريزي وعلماء الحملة الفرنسية وكثيرين غيرهم.
 وفي ظل الحضارة الإسلامية كذلك حافظت المرأة المصرية على مكانتها المتميزة، رغم التقاليد الوافدة، وانتقى المجتمع المصري في أغلب الفترات الجوانب الأكثر إشراقا من تلك الحضارة ليساند بها حقوق المرأة. فعادت لها بعض حقوقها التي سلبتها منها التشريعات البطلمية والرومانية والبيزنطية، فقد أقر الإسلام حق المرأة في التملك وفي إدارة شئونها الاقتصادية والمالية، كما تؤكد الوثائق التي وصلتنا من مصر الإسلامية، خاصة عقود الزواج ووثائق الطلاق، ما كان للمرأة من حقوق في مجال الأحوال الشخصية، فمنذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وصلت إلينا وثائق مدونة على البردي تؤكد حق الزوجة في الطلاق إذا تزوج عليها زوجها أو استمتع بجارية، وحقها في زيارة أهلها وذويها متى شاءت دون أن يمنعها زوجها، وحقها في الخروج والدخول كلما أرادت ذلك. كما تبين لنا تلك الوثائق أيضا أنه كان للمرأة أن تحصل على الطلاق من زوجها إذا استشعرت ضررا دون أن يمنعها أحد أو يراجعها مراجع، إلا بالنصح ومحاولة الإصلاح، فمتى أصرت على رأيها فلها حق الانفصال، وتقدم لنا سجلات المحاكم الشرعية التي ترجع إلى العصر العثماني ما يؤكد هذه المعاني أيضا.
 وللحديث بقية.

 الدستور 6 ديسمبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق