الجمعة، 16 يونيو 2017

حكاية الريادة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
حكاية الريادة...
عماد أبو غازي
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تراجع مكانة مصر في العالم العربي وفقدانها دورها المركزي والريادي فيه خاصة ريادتها الثقافية، وترجع كثير من تلك الدراسات والكتابات السبب إلى هزيمة 1967 المعروفة بالنكسة، والتي نعيش هذه الأيام في أجواء ذكرى الأربعين لها، والتي غيرت القيم الثقافية وكسرت زعامة مصر السياسية ومن ورائها ريادتها الثقافية، وأدت إلى شيوع ما يحلو للمثقفين أن يسمونه الفن الهابط بدلًا من الفن "الصاعد" الذي ساد في الستينات، فهل يمكن فعلًا أن نرجع السبب إلى هزيمة 67؟ وهل أدت بالفعل إلى شيوع الفن الهابط؟
 إن أول المتغيرات السلبية لم تكن هزيمة 67 بل هزيمة الديمقراطية بانقلاب يوليو 1952، ثم حسم الصراع بين جناحي تنظيم الضباط الأحرار لصالح الحكم العسكري فيما عرف بأزمة مارس 1954 وكانت هذه الردة على التجربة الليبرالية المصرية بمثابة حجر الأساس في كوارثنا السياسية والثقافية والعسكرية فيما بعد، وهزيمة 1967 ناتج من نواتج النظام الاستبدادي الذي حكم مصر بعد 1952، والأزمة الحقيقية تكمن في دعم قطاعات واسعة من المثقفين لتلك الدولة الاستبدادية وتأييدهم لها عن خوف أو وهم؛ من هذه الزاوية فقد كانت لهزيمة 1967 "جوانبها الإيجابية" حيث أستعاد المثقفون وعيهم "المفقود"، وبدأت المواجهات على الساحة الثقافية تتصاعد، وتشكلت مجموعات ثقافية مستقلة عن الدولة تحمل برنامجها الخاص بها في مواجهة "تأميم" الدولة للثقافة وسيطرتها عليها.
 ويرى البعض أن جزء أساسي من أسس الأزمة الثقافية يرجع إلى نزعة تديين المجتمع التي بدأت كرد فعل للهزيمة، لكن تلك النزعة ترتبط بشكل أساسي بانقلاب يوليو منذ بدايته، ورغم الصدمات الدامية بين حركة الإخوان ونظام يوليو في الخمسينات والستينات، إلا أن نظام يوليو كان ينافس الإخوان المسلمين على اللعب بالدين وعلى تديين السياسة والمجتمع، حتى قادة النظام وتنظيمه السياسي كانوا يستخدمون لقب "الأخ" بخلاف زملائهم البعثيين الذين استعاروا لقب "الرفيق" من التنظيمات الشيوعية، ومن هنا بدأ تصاعد نفوذ التيار الديني الذي لم يتمكن في العصر الليبرالي من تحقيق انتصارات واضحة على الساحة السياسية أو الثقافية.
 كما أن ما يقال عن تراجع الإعلام المصري صحافة وإذاعة وتليفزيون لا يرتبط بتغير الحالة الثقافية في مصر، بل بمتغيرات أخرى أولها مساحة الديمقراطية المقيدة التي بدأت في السبعينيات مما أدى إلى السماح للصحف العربية بالدخول إلى السوق المصري ومنافسة الصحافة المصرية خاصة بعد ارتفاع سعر الصحيفة المصرية واقترابه من سعر الصحف العربية. أما الإذاعة والتلفزيون، فقد كان إلغاء التشويش على محطات الإذاعة الأجنبية عاملاً في اتجاه قطاع من المستمعين إليها وابتعادهم عن الإذاعة المصرية، المتغير الثالث يرتبط بالتطور التقني وانتشار أطباق الاستقبال المباشر من الأقمار الصناعية الذي جعل من السهل التقاط المحطات الفضائية المختلفة الأكثر جودة من التلفزيون المصري فانتقل المشاهدين إليها.
 أما الحديث عن ما نسميه نحن "المثقفين" الفن "الهابط" وسيادته في الثلاثين سنة الأخيرة بدءً من عدوية وانتهاءً بشعبان عبد الرحيم، ففي تقديري أن الأمر يرتبط بالتطور التكنولوجي في المجتمع، فهذا النوع من الفن كان موجود دائمًا ومنتشرًا في الأوساط الشعبية بشكل واسع في الموالد وحفلات الزفاف والختان وغيرها من المناسبات، لكن انتشاره كان مقيدًا بحدود الدوائر المغلقة التي يقدم فيها هذا الفن، لأن ذوق الطبقة الوسطى والطبقات العليا كان المسيطر على الإذاعة ومن بعدها على التلفزيون وهى وسائل البث الجماهيري، وحتى شركات الاسطوانات كانت خاضعة لذوق الطبقة المسيطرة على المجتمع باعتبارها القادرة على شراء الأسطوانة وامتلاك الفونوغراف ومن بعده الجرامفون ثم البيك أب الذي يدير تلك الاسطوانات ومن هنا فلا مكان للذوق الشعبي ولا اعتبار له. مع ظهور أجهزة التسجيل الصغيرة (الكاسيت) حدثت ثورة في تداول الأغنية والموسيقى وأصبح متاحاً بسهولة نسخ الأغاني لأي فرد بمجرد امتلاكه جهاز تسجيل صغير الحجم قليل الثمن، وهو ما لم يكن متاحًا بالنسبة للاسطوانات وأدى ذلك إلى كسر احتكار الطبقات العليا للذوق العام، وأكد فشلها التام في نشر فنها "الراقي" في المجتمع، وتدريجيًا انتشرت التسجيلات التي نسميها هابطة، ومع اتساع الطلب عليها بدأت شركات الإنتاج تنتجها وأخيرًا وصلت إلى محطات الإذاعة والتلفزيون مع ظهور المحطات الخاصة.
 في النهاية هل يعني ذلك أن لمصر ريادة فقدتها؟ أو أن هذه قضية تستحق أن ننشغل بها؟ في تصوري أن ظهور مراكز ثقافية أخرى إلى جانب مصر في المنطقة العربية ليس خطرًا أو همًا مؤرقًا – بالمعنى السلبي – بل هم إيجابي حيث أنه يشكل دافعًا لمزيد من النهوض بالثقافة المصرية. ثم إنه تاريخيًا لم يكن للثقافة العربية مركز واحد أبدًا، بل قامت في كل العصور، عصور الازدهار وعصور الانهيار، على تعدد المراكز الثقافية والسياسية. في كل العصور والأزمان كانت هناك القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وعمان وغيرها من العواصم العربية التي تقدمًا وإبداعًا ثقافيًا، بل أن كثير من رواد نهضتنا الثقافية والفنية الحديثة في مصر لم يكونوا مصريون أصلًا، فالفن والأدب والثقافة والإبداع ظواهر إنسانية لا تحدها حدود، فمثلما كان هناك رفاعة ومحمد عبده كان هناك خير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي، ومثلما كان هناك نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم هناك حنا مينا وعبد الرحمن منيف والطيب صالح، ومثلما كان هناك حافظ وصلاح عبد الصبور كان هناك الجواهري والسياب والبياتي وتوفيق زياد.
 إن المشكلة الحقيقية ليست في الريادة لكنها تكمن في تلك المراكز التي تبث ثقافة التخلف في مصر وفي غيرها من العواصم العربية، إن المعركة ليست معركة على من يكون له الريادة بين مراكز الثقافة العربية بقدر ما هي معركة مواجهة بين مراكز الاستنارة ومراكز التخلف على طول الساحة الثقافية العربية وعرضها.

الدستور 6 يونيو 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق