الاثنين، 26 يونيو 2017

الزعيم والفنان... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الزعيم والفنان...
عماد أبو غازي
 "إن في وجدان كل مصري ـ ولو لم يكن فنانًا ـ تمثالًا لسعد زغلول".
 كانت هذه كلمات النحات محمود مختار عندما كلفته الحكومة بنحت تمثالين للزعيم سعد زغلول بعد رحيله في 23 أغسطس 1927، ليقام أحدهما بالقاهرة والثاني بالإسكندرية، في إطار مشروعات تخليد ذكرى سعد، تلك المشروعات التي تضمنت إقامة ضريح ليدفن فيه جثمان الزعيم، ثم تحويل بيته، بيت الأمة، إلى متحف.
 وبالفعل قام مختار بإنجاز ما كلف به، وما زال تمثاليه لسعد زغلول شامخان يشهدان على قدرة الفنان ومكانة الزعيم في آن واحد؛ من خلال تمثالي سعد بالقاهرة والإسكندرية سجل مختار مجموعة من القيم والمفاهيم السياسية والوطنية، فلم يكن التمثالان مجرد تجسيد لشكل الزعيم وملامحه الشخصية، ولم يكونا مجرد تمثالي ميدان كغيرهما من التماثيل التي جمّلت ميادين القاهرة منذ القرن 19، لقد كانت المرة الأولى التي يحول فيها فنان مصري تمثال الميدان الشخصي إلى عمل ملحمي يعبر عن ثورة شعب وطموحاته وأهدافه وأمانيه القومية، فقاعدة تمثال الإسكندرية قامت على مشاهد تسجيلية لأحداث ثورة 1919.
الجماهير تحمل سعد

13 نوفمبر
ورمزين مجسمين للوجهين القبلي والبحري.
 الوجه القبلي

الوجه البحري
 وحين صور مختار العدالة والدستور والاستقلال على قاعدة تمثال القاهرة كان يسجل أهدافًا يسعى الشعب المصري إلى تحقيقها من خلال نضاله الوطني.


 وحين صور أصحاب الحرف ومشاهد العمل في الريف وعلى صفحة النهر كان يخلد أبناء هذا الشعب الذين ثاروا سنة 1919 في نحت جداري ميداني لأول مرة.

 لقد كان بناء قاعدة تمثال سعد الجرانيتية في القاهرة تشكيلًا متكاملًا مع تمثال الزعيم الذي يعلوها، إنها ليست مجرد قاعدة ترفع التمثال ولكنها تحمل إشارة واضحة إلى أن القاعدة بما فيها من بشر وقيم وأهداف هي التي رفعت الزعيم وحملته ليحتل مكانه البارز في وجدان وتاريخ الأمة.
 يعرف الناس عن علاقة المثال محمود مختار بسعد زغلول، أن مختار هو مبدع تمثالي الميدان للزعيم في القاهرة والإسكندرية، كذلك يشاهد زوار متحف مختار بالجزيرة تمثالًا نصفيًا لسعد وتمثالًا آخر لرأس سعد ـ مأخوذًا عن تمثال سعد الميداني بالقاهرة ـ وهو واحد من أروع أعمال مختار في فن التمثال الشخصي.


 وإذا كانت علاقة مختار بسعد قد بدأت بإشادة سعد بمشروع تمثال نهضة مصر وانتهت بنحت مختار للتمثالين الصرحيين، فإن ما لا يعرفه الناس عن علاقة الفنان بالزعيم، إن هذه العلاقة لم تسر دائمًا في اتجاه التأييد والتمجيد من الفنان للزعيم، ففي المرحلة التي أعقبت قيام الحكم البرلماني وما شهدته من صراع سياسي وفكري وانشقاقات خرجت عن الوفد المصري، تعارضت نظرة مختار إلى سعد رئيس الحكومة ورئيس البرلمان والسياسي الذي يصارع على الساحة السياسية في الداخل مع نظرته لسعد زعيم الأمة وقائد الثورة، ووقف مختار بفنه في كثير من الأحيان في مواجهة مع سعد ومواقفه، وقدم من خلال مجلة " الكشكول " مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية عرفت باسم " الزغلوليات " أنتقد فيها بعض مواقف سعد وسخر منها، كما قدم كذلك رسومًا كاريكاتورية ساخرة في "السياسة الأسبوعية"، ومن اللافت للنظر أن كثيرًا من الأدباء والمفكرين ذوى الميول الليبرالية والديمقراطية قد انحازوا في هذه الفترة إلى جانب حزب الأحرار الدستوريين أو التفوا حول جريدته الأسبوعية التي كانت في تلك المرحلة من العشرينات أحد أهم المنابر الثقافية في مصر.

 ولم يقتصر نقد مختار لسعد على الرسوم الكاريكاتورية، فقد نحت تمثالًا لسعد يعد من أعمال النحت الكاريكاتوري النادرة مثل فيه سعدًا مرتديًا ملابس فقراء الهنود وجالسًا في جلسة التأمل في اليوجا ومرتديًا في الوقت نفسه ياقة منشاة ورابطة عنق (بابيون) في إشارة إلى التعارض بين المواقف والأقوال، مع تضخيم الأذنين بشكل مبالغ فيه تلميحًا إلى أن سعد يستمع إلى الوشايات التي تنقل إليه لقد حاول مختار أن يلخص في هذا التمثال الساخر رأيه الناقد لسعد في مرحلة من مراحل حياته السياسة.

 وظل هذا التمثال مجهولًا لعشرات السنين ـ بعد وفاة مختار ـ لأن أسرة مختار رأت أن التمثال يمكن أن يستخدم في سياق حملات تشويه سعد وحزب الوفد، خاصة في أعقاب انقلاب يوليو 52، ولم يكشف الستار عن التمثال إلا في احتفالات مئوية ميلاد مختار سنة 1991، في محاضرة ألقيتها بمتحف مختار، وبعدها بعام في مقال نشرته بالهلال، وقد قمت بإهداء التمثال لمتحف مختار في مارس 2005، لكنه لم يعرض حتى الآن.
 وقد أثارت رسوم مختار وانتقاداته حفيظة سعد عليه وأدت إلى قطيعة بينهما دامت سنوات، ورغم قسوة الانتقادات لم يلجأ سعد للقضاء، فقد كان يعتبر أن نقد الشخصية السياسية العامة مهما كانت قسوته مباح، وظلت القطيعة إلى أن التقيا مصادفة في فندق مينا هاوس وتصافيا وتصالحا، وتأكيدًا للمصالحة قام بعدها سعد بزيارته الشهيرة لموقع العمل في تمثال النهضة بصحبة جماعة من الساسة والأدباء والصحفيين، وقد احتفى مختار بسعد احتفاءً بالغًا في تلك الزيارة التي كانت من أيام الوداع في حياة سعد فلم يمهل القدر مختارًا حتى يحظى بمشاركة سعد في حفل إزاحة الستار عن تمثال النهضة بسبب مماطلات الحكومة التي أجلت الحفل لشهور طوال فكان سعد قد فارق الحياة.
 لقد انقضت بذهاب سعد تفاصيل الخلافات العابرة والانتقادات الساخرة ولم يبق إلا الرمز الذي خلفه كزعيم للأمة واستوحاه مختار في تمثاليه الميدانيين لسعد، هذان التمثالان اللذان تسببا فيما لاقاه مختار من عنت واضطهاد في سنواته الأخيرة ورحل قبل أن يراهما قائمين في مكانيهما.



الدستور 17 أكتوبر 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق