الخميس، 15 يونيو 2017

عودة الدستور انتصار الشعب... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
عودة الدستور انتصار الشعب
عماد أبو غازي
 صدرت صحف السبت 7 ديسمبر 1935 تحمل البيان الذي اتفق عليه الطلاب، وجاء فيه:
 "لقد قام الشباب بحركته الأبية يوم عيد الجهاد، صارخا من اعتداء الاستعمار، مطلقا صوته القوي داويا مجلجلا في أنحاء العالم ـ بعد أن نفذ معين صبره، وتمزق أخر ستار عن رياء الإنجليز وخداعهم. ورأى الشباب أن خير وسيلة لمجابهة هذا العدو المشترك، هو أن تكون صفوف الأمة كلها قلبا واحدا ويدا واحدة، كالبنيان المرصوص، أمام طغيانه وبهتانه "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص" "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم". ولما ساروا في طريقهم اعترضهم خلاف برئ في الرأي، أوجد بعض الأمل عند المستعمرين في فشل حركتهم، فراحوا يتغنون بذلك في صحفهم.
 واليوم وقد بدا من تصريح وزير خارجية إنجلترا في مجلس العموم أمس إصرار الإنجليز على إهدار حقوق الوطن، رأى الطلبة من واجبهم أن يوحدوا جبهتهم ويجمعوا كلمتهم على أن يواصلوا السعي:
أولا: للاستقلال لمصر والسودان استقلالا تاما، وتحقيق جميع المطالب الوطنية، ومن بينها دستور 1923 مؤكدين العزم على تقديم كل تضحية مهما غلت في سبيل ذلك.
ثانيا: دعوة جميع الأحزاب والهيئات إلى ترك المناقشات والخلافات الحزبية، وأن يوجهوا جميع قواهم إلى عدو الشعب المشترك وهو الإنجليز، وأن يعملوا على تكوين جبهة وطنية قوية ضدهم".
 وقد وقع على البيان أعضاء اللجنة التنفيذية للطلبة: جلال الدين الحمامصي (كلية الهندسة) ومحمود لاشين (كلية العلوم) محمد فريد زعلوك (كلية الحقوق) أحمد الدمرداش التوني (كلية الزراعة) نور الدين طراف (كلية الطب) وأحمد طلبة صقر (كلية التجارة) ومصطفى السعدني (كلية الآداب) محمد برهام (دار العلوم العليا) محمد شبل الحضري (الفنون الجميلة العليا).
 وكان من الأسماء البارزة الأخرى من بين قيادات اللجنة وقيادات الحركة، من كلية الحقوق عبد العزيز الشوربجي، ومن كلية الآداب سهير القلماوي، ومحمد حسن الزيات، ومن كلية الطب قاسم فرحات ومحمد بلال، ومن كلية الزراعة إبراهيم شكري، وكان من طلاب المرحلة الثانوية الذين شاركوا في قيادة المظاهرات جمال عبد الناصر وحكمت أبو زيد.
 ومن استعراض أسماء قادة الطلاب نكتشف أن ثورة 35 مدرسة تخرج منها رئيس جمهورية، وثلاثة وزراء، وأول وزيرة، وأول رئيسة لهيئة ثقافية، ونقيب للمحامين، ورئيس تحرير صحيفة كبرى، ورئيس للجنة الأولمبية المصرية، ومدير لنادي رياضي، وكبير مشجعي النادي الأهلي.
 وفي صباح 7 ديسمبر احتفل الطلاب، بحضور مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، بإزاحة الستار عن النصب التذكاري للشهداء، ثم خرجوا في مظاهرة وصفها ضياء الدين الريس بأنها "لا يحدها النظر" متوجهين إلى القاهرة عبر كوبري عباس، فأمر قائد قوة البوليس بفتح الكوبري، وتصور أنه نجح في وقف المظاهرة، إلا أن طلاب كلية الهندسة استقلوا القوارب إلى عوامة التحكم في الكوبري، وأغلقوه لتعبر المظاهرة إلى منيل الروضة، الذي تحول إلى ساحة لمعركة حربية بين الطلاب والبوليس وأصيب لوكاس  بك مساعد حكمدار العاصمة الإنجليزي إصابة خطيرة، كما أصيب مفتش البوليس نوبل في ساقه بطلقات نارية كانت قواته تطلقها على الطلاب الذين أصيب العشرات منهم، واعتقل 78 طالبا، وكان البوليس شديد العنف في تعامله مع الطلاب فلجأ الكثيرون منهم للاختباء في بيوت الحي، وأذكر أن جدتي التي كانت تسكن في حي المنيل حكت لي وأنا طفل كيف لجأ مجموعة من المتظاهرين إلى العمارة التي كانت تسكنها، فدعتهم للدخول في شقتها للاحتماء من البوليس، فدخلت مجموعة منهم، بينما رفض آخرون الدخول وفضلوا اللجوء إلى سطح المنزل، فلم يكن في الشقة غير جدتي وبناتها طالبات الابتدائي، فقبض على من صعدوا للسطح، بينما طلبت هي من الشبان الذين احتموا بشقتها أن يجلسوا كأنهم من أهل المنزل والأقارب، وتصدت لمأمور مصر القديمة الذي حاول دخول الشقة للتأكد من هوية الطلاب، ومنعته من الدخول دون إذن من النيابة، ثم نزلت بعد ذلك إلى الشارع لتضمن أن أبي الذي كان طالبا بمدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية بشارع نوبار سيمر من الحواجز الأمنية التي أقامها البوليس في شارع المنيل.
 استمرت المظاهرات لأيام واتسع نطاقها رغم إغلاق الجامعة، واستجاب قادة الأحزاب للطلاب، وأعلنوا تأليف الجبهة الوطنية برئاسة مصطفى النحاس باشا، وشاركت فيها كل الأحزاب السياسية وبعض المستقلين، ولم يبق خارجها سوى حركة مصر الفتاة ذات الميول الفاشية وجماعة الإخوان المسلمين ـ بالطبع ـ فقد كان موقفها دائما في الجبهة المعادية للشعب وحركته.
 وصباح الأربعاء 11 ديسمبر 1935 صاغ قادة الجبهة خطابين الأول للملك يطلب عودة دستور 1923، والثاني للمندوب السامي البريطاني يطلب بدأ المفاوضات من أجل الجلاء، وسط ذهول الملك والإنجليز من التحول السريع في المواقف، ولم ينقض يوم الخميس 12 ديسمبر 1935 إلا وكانت حكومة توفيق نسيم قد قدمت استقالتها، وأصدر الملك أمرا ملكيا بعودة الدستور، وانتصر الشعب.
لقد ظلت أفكار عبدة السلطان الذين باعوا ضمائرهم وعلمهم للمستبدين ملهمة لكل من يسعى إلى سلب الأمة حقوقها والتعدي على حرياتها، وفي المقابل ستظل تضحيات شهداء الأمة من أمثال عبد الحكم الجراحي وزملائه، وأفكار وقيم الحرية التي رفع راياتها ودافع عنها وضحى من أجلها العقاد وطه حسين ومختار ومصطفى النحاس وويصا واصف وعدلي يكن وأحمد لطفي السيد وغيرهم، هادية للشعب المصري مهما مر الزمن ومهما حاول المستبدون طمس هذه القيم وإخفائها تحت التراب، لقد ذهبت أسماء من صنعوا دستور 30 إلى مزبلة التاريخ مع دستورهم، بينما ظلت وستظل أسماء من قاوموا نهج الاستبداد ساطعة في سماء الوطن.

الدستور 30 مايو 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق