الأحد، 11 يونيو 2017

يوم الجلاء... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
يوم الجلاء
عماد أبو غازي
 لم يؤد القمع البوليسي لمظاهرات الجامعة يومي 9 و10 فبراير 1946 إلى توقف الحركة الطلابية، بل على العكس أدى إلى التفاف شعبي جارف حولها، وتشكلت "اللجنة الوطنية للعمال والطلبة" لتقود الحركة الجماهيرية الصاعدة، وكانت هذه اللجنة تشكل تحالفا يضم عناصر من الشيوعيين والوفديين وغيرهم من القوى الوطنية الديمقراطية، وأصدرت اللجنة ميثاقًا وطنيًا حددت فيه أهداف الشعب وعلى رأسها الجلاء التام عن مصر والسودان، ودعت اللجنة إلى إضراب عام في البلاد كلها وحددت له يوم 21 فبراير 1946، وأسمته يوم الجلاء، وبدأت الدعوة له، وابتكرت الحركة أساليب جديدة في الدعاية، فتم تصميم شارات معدنية طليت بالمينا عليها عبارات تدعو للجلاء ووحدة وادي النيل، مع بعض الرسوم المعبرة عن الكفاح الوطني، وكان المصريون رجالًا ونساء يعلقون تلك الشارات الصغيرة على صدورهم، وأذكر أنني شاهدت عددا منها وأنا صغير لدى عماتي اللاتي كنا طالبات بالجامعة عام 46، وكانت حكومة إسماعيل صدقي باشا التي حلت محل حكومة النقراشي قد قررت عدم منع المظاهرات أو التصدي لها، بل إن صدقي استقبل وفدًا من قادة الحركة وفقًا لروايات كل من فوزي جرجس في كتابه: "دراسات في تاريخ مصر السياسي والاجتماعي" والدكتور عصام الدين جلال في مذكراته.
 وفي يوم الخميس 21 فبراير 1946 أضربت مصر كلها وخرجت المظاهرات تطوف شوارع المدن المصرية، وفي القاهرة خرجت مظاهرة غير مسبوقة من حيث عدد المشاركين فيها ومن حيث تنظيمها، وطافت المظاهرة شوارع وسط القاهرة دون أن تتعرض لها قوات البوليس بناء على تعليمات رئيس الوزراء، وكانت المظاهرة الوحيدة التي تصدى لها البوليس المصري، مظاهرة مدينة المنصورة التي استشهد فيها طالب ثانوي.
وفي مظاهرة القاهرة صارت الأمور بسلام، لكن ما أن وصلت المظاهرة إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) حيث كانت ثكنات الجيش البريطاني في موضع جامعة الدول العربية وفندق هيلتون حاليًا، حتى اقتحمت السيارات العسكرية البريطانية المظاهرة، فدهست من دهست وأطلق الجنود النار على من أطلقوا، فسقط في المظاهرة 23 شهيدا و121 جريحا.
 وقد تصادف أن شهدت عدد من المستعمرات البريطانية مظاهرات في نفس اليوم، من هنا اتخذ هذا اليوم يوما عالميا لنضال الطلاب ضد الاستعمار وليس يومًا للطالب العالمي كما يتردد كثيرًا، فيوم الطالب العالمي مرتبط بمناسبة أخرى هي اقتحام النازيين في ألمانيا لإحدى جامعاتها، واليوم كما ذكرني الصديق محسن بدوي يقع في شهر نوفمبر.
 أثار العدد الكبير من الشهداء الذين سقطوا في 21 فبراير سخط المصريين بجميع طوائفهم وأحزابهم، وأدان مجلسا النواب والشيوخ جريمة قوات الاحتلال ووقف الأعضاء حدادا على أرواح الضحايا في جلستيهما يوم 25 فبراير، كما اتفقت اللجنة الوطنية مع باقي القوى السياسية والجماعات على إعلان يوم 4 مارس يومًا للحداد الوطني، تغلق فيه المدارس والجامعات والمحال التجارية والمقاهي والأماكن العامة وتسير فيه المظاهرات في الشوارع، ومرت المظاهرات في جميع المدن المصرية بسلام ما عدا مظاهرات مدينة الإسكندرية التي اشتبك فيها الجنود البريطانيين مع المتظاهرين أمام كشك البوليس الحربي البريطاني بميدان سعد زغلول، وسقط 28 شهيدا و 342 جريحا من بين المتظاهرين مقابل جنديين بريطانيين وجرح أربعة. وسمي اليوم يوم الشهداء، وشارع أفيروف الذي سقط فيه معظم الضحايا شارع الشهداء.
 رغم أن المظاهرات لم تسفر عن إنهاء الاحتلال البريطاني لمصر إلا أنها أرغمت يريطانيا على سحب قواتها من المدن المصرية ما عدا منطقة قناة السويس، وبدأ الانسحاب في 4 يوليو بالجلاء عن القلعة وتسليمها للجيش المصري، وعلى صعيد آخر حظي صدقي باشا بدعم من أحزاب الأقلية وجماعة الإخوان المسلمين ـ المعادية للشعب دائما والتي تتحالف مع كل طاغية حتى تتمكن ثم تنقلب عليه وقد تقتله ـ وكان هذا من خلال اللجنة القومية التي شكلوها في مواجهة اللجنة الوطنية للعمال والطلبة، وكان الرجل يمهد سرا للمفاوضات مع بريطانيا، ولما كان مشروعه للاستقلال ليس إلا استقلالا منقوصا يسمح لبريطانيا بالاحتفاظ بقواعدها في مصر وبسيطرتها على البلاد، فقد شن صدقي أكبر حملة اعتقالات عرفتها مصر في الحقبة الليبرالية في يوم 10 يوليو 1946 عشية احتفال القوى الوطنية بذكرى الاحتلال البريطاني لمصر، وقد عرفت هذه الحملة بقضية الشيوعية الكبرى واعتقل فيها العشرات من القيادات الطلابية والعمالية وعشرات من الكتاب والصحفيين، وكان الكثيرين منهم بعيدين تماما عن الشيوعية، مثل المفكر الكبير سلامة موسى والكاتب الصحفي محمد زكي عبد القادر، وفي هذه الحملة أغلقت عدة صحف ومجلات ودور نشر وطنية، وكان واضحا أن هدف تلك الحملة التي انتهت على "ما فيش" تمرير ما يصل إليه صدقي من اتفاقات مع الإنجليز، وبالفعل توصل صدقي في أكتوبر 46 إلى التوقيع بالأحرف الأولى على مشروع معاهدة مع وزير خارجية بريطانيا بيفين، عرفت باسم اتفاقية صدقي ـ بيفن، إلا أن الشعب رفض الاتفاقية، بل إن سبعة من أعضاء وفد المفاوضات أعلنوا رفضهم لها لما فيها من انتقاص لحقوق مصر، وسقطت الاتفاقية ومعها سقطت حكومة صدقي في ديسمبر 46، والغريب في الأمر أن تلك الاتفاقية المرفوضة شعبيا لا تختلف كثيرا عن اتفاقية الجلاء التي وقعها عبد الناصر مع الإنجليز سنة 54 بعد عامين من انقلابه العسكري، لكن عبد الناصر كان قد مهد الطريق لتوقيع الاتفاقية دون معارضة تذكر بتصفيته للحياة الحزبية والديمقراطية في مصر مستعينا بالإخوان أيضا، الذين انقلبوا عليه بعدها بأسابيع وحاولوا اغتياله في ميدان المنشية بالإسكندرية.  
وبين إسقاط اتفاقية صدقي بيفن سنة 1946 وتوقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954 جرت في النهر مياه كثيرة.

الدستور 14 مارس 2007

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق