الخميس، 1 يونيو 2017

سنوات الهرب والمنفى ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
سنوات الهرب والمنفى ...
عماد أبو غازي


  استمر عبد الله نديم مخلصًا لمبادئ الثورة وأهدافها حتى عندما بدت في الأفق ملامح الهزيمة، وانفض الكثير من رجال الثورة عنها وانتقلوا إلى معسكر الأعداء، وبعد الهزيمة، تم القبض على من بقي حيًا من قادة الثورة لتقديمهم للمحاكمة، أما النديم فقد نجح في الفرار.
 وبعد أربعة أيام فقط من احتلال الإنجليز للقاهرة وفي الثامن عشر من سبتمبر 1882 أصدر توفيق أمرًا عاليًا بسرعة القبض على عبد الله نديم والبقية الباقية من رجال الثورة الذين لم يتم القبض عليهم، فطالما ظل النديم طليقًا فثمة تهديد لاستقرار الخديوي، فهو خطيب الثورة وصوتها الذي حمل رسالتها إلى الجماهير.
 لكن عبد الله نديم الذي عبر دائما عن روح الشعب وآماله، وجد الحماية في أحضان هذا الشعب فظل هاربا لأكثر من تسع سنوات كاملة دون أن ينجح رجال الخديوي أو الاحتلال في القبض عليه، لقد ساعد الناس النديم في كل مكان ذهب إليه في ملحمة تؤكد على أن الروح الوطنية سارية في وجدان الشعب رغم قوة الاحتلال واستبداد الخديوي، فالمبادئ التي نادى بها النديم الذي خرج من صفوف الشعب وبلور بقلمه وكلماته طموحه نحو الاستقلال والمشاركة في إدارة أمور البلاد أثمرت ثمراتها، وبعد رحلة طويلة من التخفي والتنكر دامت تسع سنوات قبض عليه بعد وشاية.


ومن الوثائق التي تحتفظ بها دار الوثائق القومية ضمن مجموعة وثائق الثورة العرابية، مذكرة نشرتها الدار منذ عشر سنوات بمناسبة الاحتفال بالمئوية الأولى لرحيل عبد الله نديم، وفيها يسجل وكيل الداخلية وقائع القبض عليه والإجراءات التي اتخذت مع من قاموا بإيوائه فيقول:
 "عبد الله نديم ضبط في ناحية الجميزة بمركز السنطة في ليلة السبت 3 أكتوبر سنة 91 هو وتابعه حسين أحمد الذي صحة اسمه صالح أحمد، وعملت التحقيقات اللازمة مع السيد أبو العزم بسيوني عمدة الناحية وعلي سليمان أحد مشايخها ومحمد حلمي شيخ غفرائها والسيد على البسيوني من أهاليها وعبد الغني جميل مأذون الشرع بها عن كيفية وجود عبد الله نديم بالناحية، وصار سجنهم بمديرية الغربية."
 ثم تستطرد المذكرة لتحكي على لسان عبد الله نديم قصة هروبه بين قرى الدلتا ومدنها والشخصيات التي تقمصها والأسماء التي تسمى بها والزيجات التي تزوجها وأسماء من ساعدوه في رحلته الطويلة مع الهرب، فتقول: "ثم بالإطلاع على التقرير الذي عطي منه حين ضبطه، وجد مذكور فيه: إنه من مدة الثورة لم يكن له محل إقامة مخصص، وإنه بعد هزيمة أحمد عرابي كان قاصد هو وتابعه صالح التوجه إلى دمياط"، ويذكر النديم في تقريره أنه ترك دمياط بعد أن علم بالقبض على أحد أنصار الثورة الهاربين هناك، ونعرف من المذكرة أنه تلقى مساعدات من عدد من الأشخاص أهمهم أحمد بك المنشاوي أحد أعيان محافظة الغربية والذي عرف بمواقفة الوطنية، والذي استضافه لفترة بالقرشية واستمر في إرسال المال له بعد أن غادرها، كم دبر له ملابس للتنكر، كما يذكر أسماء سيد أحمد أفندي عبد الخالق والحاج إسماعيل الكردي ومحمد أفندي فودة البكباشي من ناحية المنشية، والبك الشاذلي من ناحية شبرا نما والسيد بك النجار من ناحية سلامون، والسيد علي شيخ ناحية الجميزة الذي كان يكرمه بدون أن يخبره بحقيقة أمره.
 كما يروي النديم في تقريره: "إنه حالما كان بالكوم الطويل هم السيد علي المغازي بقتله هو وتابعه لكونه اشتهر هناك كثيرا، وقصدوه الناس للتعلم والاستفتى، فحقد عليه ذلك، وعندما بلغه ذلك خرج مع خادمه لجهة المحلة، وفي تلك الليلة أخبر أحمد أبو سعيد عمدة الكوم الطويل أنه نديم، فأعطاه حمارين إلى المحلة، وفي الصباح أشيع أن الشيخ الفيومي وهو اسمه إذ ذاك هو من العرابيين المختفين"، وكانت هذه الخطوة التي قادت إلى القبض عليه بالجميزة.
 وتنتهي المذكرة إلى أنه: "حيث أن عبد الله نديم المذكور محكوما عليه بالتبعيد، وكان ينبغي على من آووه وهم يعرفون حقيقته أن يخبروا الحكومة عنه.
وحيث أن من تستروا عليه ممن يعرفون حقيقته لاسيما الأعيان أصحاب الرتب منهم والموظفين مثل المشايخ والعمد ينبغي مجازاتهم قانونا.
وحيث أن عبد الله نديم المذكور نظرا لما هو معلوم من ارتكابه بث الفتن بخطاباته التي أقلقت الأفكار مدة الثورة، أرى وجوب تبعيده عملا بالأمر العالي الصادر في شأنه".
 وبالفعل نفي عبد الله نديم إلى يافا في فلسطين، لكنه عاد إلى مصر عقب وفاة توفيق وتولي عباس حلمي الحكم، ورغم أن عودته كانت مشروطه بابتعاده عن السياسة إلا أن الرجل لم يستطع التخلي عن مبادئه ولم يقبل بالصمت، فأصدر صحيفة "الأستاذ"، وجعلها صوتا للوطنية في مواجهة الاحتلال، ولم يتحمل اللورد كرومر ما يكتبه النديم فسعى إلى نفيه مرة ثانية.
وفي منفاه في استنبول دخل في معارك سياسية عديدة ضد الفساد والاستبداد، وألف أخر كتبه "المسامير" الذي يفضح في فساد الصدر الأعظم (رئيس وزراء الدولة العثمانية)، وقضى "الأستاذ" سنواته الأخيرة بعيدًا عن الوطن الذي أحبه وأخلص له وضحى من أجله، وتوفي في 11 أكتوبر سنة 1896 في الأستانة حيث دفن هناك في غربته، لكن مصر لم تنسه أبدًا. لقد لفت نظري أحد الأصدقاء القدامى من محبي النديم أن خلاصة تجربته الثبات على المبدأ والانتماء للناس، لذلك بقي حاضرًا في وجدان الناس.

الدستور 11 أكتوبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق