الأربعاء، 18 أكتوبر 2017

الغزلان تعشق الفريسكا... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الغزلان تعشق الفريسكا
عماد أبو غازي


 إذا كانت طوكيو مدينة يغلب عليها الطابع الحديث، فإنك تلحظ هذا التعايش بين القديم والجديد بوضوح عندما تزور العواصم التاريخية القديمة للبلاد: كيوتو ونارا، هناك أنت في متاحف مفتوحة، المعابد الأثرية الشنتوية والبوذية في كل مكان، كلها مزارات أثرية سياحية، لكنها في نفس الوقت ما زالت مستخدمة كدور للعبادة، تجد الزائر الأجنبي ـ أو حتى الياباني ـ الذي جاء لزيارة المعبد باعتباره معلمًا أثريًا يعكس مرحلة من مراحل الحضارة اليابانية في عصورها القديمة، وتجد في نفس الوقت الياباني الذي جاء ليمارس طقوسه الدينية، داعيًا ومتضرعًا أو مشعلًا عودًا من البخور أو مقدمًا نذرًا صغيرًا أو كبيرًا.


أو مرسلًا رسالة إلى أرواح الأجداد، مثلما كان يفعل قدماء المصريين، أو مثلما يفعل محدثوهم عندما يرسلون رسائلهم إلى الإمام الشافعي.


  معظم الشوارع في مدينتي كيوتو ونارا ضيقة كثيرة الانحناءات، تقترب من حوارينا الصغيرة، مع ذلك تسير فيها السيارات في الاتجاهين وبسرعة دون حوادث، في التقاطعات والملفات مرايات ضخمة معلقة على الحوائط تكشف الطريق للسيارات لمنع الحوادث.
 كيوتو عاصمة اليابان القديمة منذ عام 794م حتى عام 1868م عندما انتقلت العاصمة إلى إيدو التي تحول اسمها إلى طوكيو مع عصر ميجي الذي يعد عصر الإصلاح في اليابان، مدينة كيوتو مدينة رائعة الجمال، تبدو كأنها مشيدة في قلب فوهة بركان عملاق خامد، تحيط بها الجبال بشكل دائري من كل الاتجاهات، جبالها خضراء تغطيها الأشجار العملاقة، وتتخللها الجداول التي ينساب ماؤها رائقًا.








تتميز كيوتو بالمعبدين الذهبي والفضي وهما من أهم المعالم الأثرية في المدينة، بل في اليابان كلها، يرجع تاريخ بناء المعبد الذهبي إلى سنة 1397م أي إلى مرحلة توازي العصور الوسطى في تاريخنا المصري وعلى وجه التحديد عصر المماليك البحرية، المعبد تحفة معمارية مشيد من الخشب المغطى برقائق الذهب، يقع في وسط مساحة خضراء شاسعة تتخللها البحيرات والجداول المائية، والماء دائمًا لصيق بالمعابد البوذية، وعادة ما تعيش فيه أسماك ملونة ضخمة. أما المعبد الفضي الذي شيد بعد المعبد الذهبي بقرابة تسعين عامًا، في سنة 1489م فيوازي تاريخ تأسيسه مرحلة الانتقال من عصر حكم المماليك البحرية إلى حكم المماليك الجراكسة، وتحيط به منطقة سياحية تشبه خان الخليلي، مليئة بالمحلات الصغيرة التي تبيع المنتجات التقليدية.


 من المعالم التي تتميز بها المدينة كذلك حدائقها الصخرية الموجودة في بعض المعابد البوذية، تلك الحدائق التي تعكس اتجاهًا صوفيًا في الديانة البوذية، والحدائق الصخرية عبارة عن مساحات مستطلية ليست بالكبيرة مزينة بصخور مختلفة الأشكال والألوان منسقة بأشكال معينة تعكس مفاهيم هذا الاتجاه الصوفي.


 نارا العاصمة الأقدم لليابان، كانت عاصمة للبلاد لفترة بسيطة بين سنتي 710 إلى 784م، قبل أن تنتقل العاصمة إلى ناجاواكا لمدة عشر سنوات تقريبًا، ثم إلى كيوتو، تتميز نارا بغزلانها البرية التي تتجول في شوارع المدينة أمنة منطلقة بين الناس والسيارات، تأكل العشب من الأرض، وأوراق الشجر، وقد يرتكب الزائر للمدينة للمرة الأولى "حماقة" محاولة إطعام تلك الغزلان بنفسه، فتكون العواقب وخيمة، في شوارع المدينة يقف باعة عجائز رجالًا ونساءً يحملون صناديق زجاجية بداخلها رقائق تشبه "الفريسكا" التي نأكلها على شواطئ مصر، الناس تشتري هذه الرقائق لإطعام الغزلان، بمجرد أن تفتح الباكو وتحاول إطعام غزال من هذه الغزلان الجميلة تجد نفسك في ثواني محاطًا بالعشرات منها تناشدك قطعة فريسكا صغيرة، ليس لأنها جوعانة، فمدينة نارا كأنها غابة كبيرة، الخضرة في كل مكان وتستطيع الغزلان أن تأكل كما تشاء، لكن يبدو أن الغزلان تعشق الفريسكا، كما تعشق الورق كذلك، شاهدت غزال يختطف كتالوج معرض للآثار من يد سيدة يابانية ويلتهمه بعد أن فشلت في انتزاعه منه، لا توجد لافتات تحذرك من أن تطعم الغزلان، فهي عمومًا لن تؤذيك وأنت تطعمها لكنها سترغمك على إنفاق ما معك من مال على شراء الفريسكا، التحذيرات التي تملأ الشوارع تحذر من الاقتراب من ذكور الغزلان في موسم التزاوج، ومن الأمهات بعد الولادة.







 مدينة نارا بها أضخم تمثال برونزي على وجه الأرض تمثال بوذا بمعبد تودا يجي، الذي يعد من أضخم المعابد الخشبية، مدينة نارا تضم عددًا كبيرًا من المعابد البوذية ومن معابد الشنتو، المعابد تتجاور دون أدنى مشكلة، الحالة الدينية في اليابان فريدة، كما قال لي صديق ياباني: اليابانيون يحتفلون بطقوس الميلاد في معابد الشنتو وطقوس الزواج في كنائس كاثوليكية وطقوس الوفاة في معابد بوذية.






 التعايش الديني في اليابان يذكرني بمصر التي كانت، مصر التي قامت حضارتها القديمة على الوحدة من خلال التنوع، على احترام التعددية، على قبول الآخر المختلف.
  إذا فكرت في أن أوجز إنطباعاتي عن اليابان في عبارات قصيرة أقول: الدقة والإتقان والتعايش بين المتعارضات سمة لكل شيئ في الحياة اليابانية وسر من أسرار نجاح اليابان.
الدستور 19 أغسطس 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق