الأربعاء، 29 مارس 2017

مقال شخصي جدا... هذا ما قالته لي أمي من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات

مقال شخصي جدًا... هذا ما قالته لي أمي

عماد أبو غازي



 في وسط الأجواء الكئيبة للانتخابات البرلمانية قررت تأجيل التعليق عليها حتى تكتمل الصورة ويخفت الضجيج، وكنت منشغلًا بأمر أخر فقد طُلب من أمي أن تكتب كلمة لكتالوج المعرض الفني لشقيقتها الفنانة التشكيلية الراحلة منحة حلمي والذي سيفتتح بقاعة أفق الملحقة بمتحف "محمد محمود خليل وحرمه" في العشرين من ديسمبر، وقالت أمي كلمتها ونسختها لها على الكومبيوتر، ورأيت أن الكلمة رغم أنها شخصية لكنها تعكس تفكير جيل أعطى كثير لهذا البلد، وبالنسبة لي فإن الكلمة تحمل معاني كثيرة فبتقديمها أتصور أنني أسد قليلًا من دين كبير لأمي، فقد أرتبط اسمي دائما بأبي كناقد تشكيلي ومثقف شارك في الحياة المصرية منذ مطلع الأربعينات، وارتبط أيضا بخال أبي مختار الذي أوصف دائما بأني حفيد له، دوما كان لدي أحساس بالذنب تجاه أمي التي أعتقد أنه أسهمت في تكويني بشكل كبير، ولا أعرف كيف أقدمها للحياة العامة التي ابتعدت عنها لسنوات طويلة، رغم أنها تستحق أن أُعرِّف بها مثلما أُعرّف بأبي، فأمي نحاته ومصورة متميزة، ليس في تقديري بل في رأي كل من شاهد أعمالها الفنية في منزل الأسرة أو في منزلنا، ابتعدت عن أضواء المعارض الفنية وركزت جهدها في عملها كمدرسة للتربية الفنية في مدرسة السنية ثم كموجهة بعد ذلك، وكم أسعد عندما ألتقي في الحياة بتلميذاتها فيتحدثن معي عنها، وكانت أخرهن زميلتي في المجلس الأعلى للثقافة نجلاء الكاشف والتي فوجئت بعد سنوات من عملنا معًا أني ابن مدرستها التي أثرت فيها وأحبتها رعاية حلمي، لقد كنت منذ طفولتي أشعر بفخر داخلي وزهو بأن أمي إمرأة عاملة، وربما جاءت الفرصة لي لأعلن هذا الزهو على الملأ، فتركت مخربشاتي اليوم لكلمات أمي التي قالتها لي:
"جمعني بمنحة مصير واحد وعلاقة مركبة، لم تكن مجرد شقيقتي التي تصغرني مباشرة، فقد كنت أكبر منحة بعامين، كنا في الوسط بين تسعة أشقاء، ولدان وسبع بنات، كان تقارب السن بيني وبينها وسط أسرة كبيرة العدد دافعا إلى توطد علاقتنا، ثم كان تقارب الميول والاتجاه نحو دراسة الفنون نتيجة لتلك العلاقة الحميمة وسببا ـ في نفس الوقت ـ لمزيد من تعميق العلاقة، كان اختيارنا للفنون مجالا لدراستنا العليا في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي نتاج نشأتنا في بيئة أسرية تحترم الفكر والثقافة، كان الأب حريصا على تعليمنا جميعا التعليم الذي نرغب فيه ويتوافق مع ميولنا، اهتم بتعليم البنات بنفس قدر اهتمامه بتعليم الأولاد، في فترة كان التحاق الفتيات بالتعليم الجامعي في مصر في بداياته الأولى، وكانت الأم تعمل دائما على توفير الأجواء الملائمة لنا لنحقق ذواتنا ونتقدم في حياتنا.
 كنا دائمًا ـ منحة وأنا ـ مع بعضنا متلاصقتان، ينادوننا دومًا: منحة ورعاية أو رعاية ومنحة، لم نكن نفترق أبدًا، معًا في اللهو في مرحلة الصبا، معًا في الدراسة وفي استلام شهادات التفوق الدراسي حتى المرحلة الثانوية، ثم في المعهد حيث اتجهت منحة لدراسة فن التصوير، واتجهت أنا لدراسة فن النحت، وبعد بعثتها إلى إنجلترا تخصصت في فن الحفر وتميزت فيه دون أن تترك أساسها الأول كمصورة بارعة، استمرت تبدع أعمالها الفنية حتى السنوات الأخيرة من حياتها عندما توقفت عن ممارسة فن الحفر بسبب الحساسية التي أصابتها من التعامل مع الأحماض والمواد الكيميائية التي يتطلبها الإبداع في هذا الفن، وإن واصلت عملها كأستاذة بكلية التربية الفنية تخرج أجيالًا وراء أجيال.
 وفي مرحلة الدراسة تعلمنا على يد مجموعة من الأساتذة المتميزين الذين ساهموا في تكوين فنانات جيلنا، كان ممن درسن لنا: مارجريت نخلة ومدام عياد ومدام راينر وكوكب سعد.
 على مر الأيام جمعت بيننا جولتنا المشتركة في المعارض والندوات الثقافية والفنية، التي كانت تذخر بها الحياة المصرية في الأربعينات، حتى عندما تزوجنا، كان اختيارنا لشخصين متشابهين في كثير من الصفات، اخترت أنا بدر الدين أبو غازي ناقدًا تشكيليًا شابًا دارسًا للقانون، واختارت هي عبد الغفار خلاف طبيبًا شابًا وهب حياته لخدمة الفقراء والدفاع عن قضاياهم، كانا متشابهين في الطموح الشديد كل في تخصصه ومجاله الوظيفي، إلى جانب اهتمام بالثقافة والفن والأدب، ومشاركة فاعلة في العمل العام، وتميزا إنسانيًا باحترام شديد للحياة الأسرية وللزوجة ولعملها، وعرفنا معهما مساندة دائمة لنا.
 كانت حوارتنا حول المعارض التي نزورها وحول الفن وقضاياه، وبعد رحيلها أشعر في ابنتها الكبرى نهال امتدادًا لها وهي تتناقش معي حول الفنانين وأعمالهم التي تقتنيها وحول المعارض التي تزورها.
 تميزت منحة حلمي دائمًا بالاتزان والهدوء والاعتماد على النفس، كانت شخصية دءوبة في عملها متقنة له لا تعرف اليأس ولديها إصرار على إتمام العمل الذي تبدأه، حرصت حتى اليوم الأخير في حياتها على الاستمرار في عملها بكلية التربية الفنية، وغادرتنا فجأة وبهدوء كعادتها وطبعها الدائم في ألا ترهق أحدًا معها."
الدستور 7 ديسمبر 2005 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق