الخميس، 23 مارس 2017

محمد علي وحماية الحريات الأكاديمية!

مخربشات
محمد علي وحماية الحريات الأكاديمية!
عماد أبو غازي

 تقوم دار الكتب والوثائق القومية بمشروع علمي يشرف عليه المؤرخ الكبير الدكتور رءوف عباس لنشر "الأوامر والمكاتبات الصادرة من عزيز مصر محمد علي" بين عامي 1222 و 1264 هـ (1807 ـ 1848 م)، ويبدو من هذه الأوامر والمكاتبات أن محمد علي كان يشغل نفسه بكل كبيرة وصغيرة في البلد، فنجد فيها تسجيلًا للقضايا الكبرى كحروبه في الجزيرة العربية للقضاء على الدولة السعودية والتمرد الوهابي، ومساعيه لضم الشام إلى ولاية مصر، وحروبه التوسعية في السودان، وعلاقاته بالسلطان العثماني وبالدول الأوروبية، كما نتعرف منها على ما دفعه من رشاوى في استنبول لتحقيق أهدافه، ونعرف تفاصيل مؤامراته داخل مصر وخارجها بما في ذلك تقرير رفعه للسلطان عن ذبحه للمماليك في مذبحة القلعة.

محمد علي باشا
 كذلك تقدم هذه الأوامر والمكاتبات صورة دقيقة عن تطور الدولة وأجهزتها ونظمها المالية والإدارية في فترة حاسمة من تاريخ مصر تشكلت فيه صورة الدولة المصرية الحديثة، كما تكشف لنا عن اهتمامات الباشا، وطريقة تفكيره، وسيطرته المطلقة على أمور الحياة في ولايته مصر، من خلال توجيهاته المستمرة لمعاونيه وموظفيه كبارًا وصغارًا ولأبنائه وأفراد أسرته اللذين أشركهم معه في الحكم، لقد كان الباشا يتدخل في تفاصيل صغيرة مثل انتشار الجرب في بعض المدارس أو تنظيم الحجر الصحي عند ظهور وباء، أو كيفية سداد العاملات في بعض المصانع التي أنشأها لديونهن الخاصة.   
 ومع الحديث المتواصل عن إصلاح الجامعة وعن الحريات الأكاديمية، استوقفني في هذه الأوامر والمكاتبات أمران أصدرهما محمد علي في جماد آخر 1251 هـ (سبتمبر 1835 م)، والأمران يرتبطان بنظام التعليم الحديث الذي أدخله محمد علي في مصر ورد فعل القوى المحافظة في المجتمع تجاه المدارس الحديثة التي أنشأها.
 لقد كان التعليم ركن أساسي في مشروع محمد علي لتحديث مصر، فعندما تولى محمد علي حكم مصر سنة 1805 كان التعليم في مصر مرادفًا للتعليم الديني الذي يعتبر الأزهر مؤسسته الكبرى، وكان ما يسمى بدراسة علوم الدنيا قد تراجع وانزوى وما يقدم منه من خلال الأزهر لا علاقة له بما وصلت إليه العلوم الحديثة في الغرب، فترك محمد علي الأزهر بعبله وأتجه إلى إرسال طلاب مصريين لدراسة العلوم الحديثة في أوروبا، وإلى إنشاء مدارس حديثة في مصر مثل المهندسخانه ومدرسة الطب ومدرسة المولدات ومدرسة الألسن وغيرها من المدارس، واهتم محمد علي باستقدام الأساتذة الأوروبيين للتدريس في هذه المدارس.
 ولم يتقبل المجتمع التقليدي هذه المدارس الحديثة ببساطة، وتعرضت تلك المدارس للهجوم عليها، وكان الدين سلاحًا للهجوم، فماذا كان رد فعل محمد علي؟
 تكشف أوامر محمد علي ومكاتباته عن موقف حازم في مواجهة دعاوى قوى التخلف، والقصة التي تتحدث عنها الأوامر ترتبط بمدرسة الطب التي أنشأها محمد علي سنة 1827 بناء على اقتراح الطبيب الفرنسي كلوت بك رئيس أطباء الجيش المصري، وقد بدأت المدرسة نشاطها في المستشفى العسكري بأبي زعبل واستمرت هناك إلى عام 1837 ثم نقلت إلى قصر العيني.

كلوت بك
 وفي عام 1835 علم محمد علي من خلال مطالعته لمحاضر اجتماعات ديوان الجهادية الذي كانت تتبعه المدرسة أن أحد المشايخ الذين كانوا يعملون بالترجمة في مدرسة الطب واسمه الشيخ الهراوي اعترض على بعض ما يدرسه كلوت بك بالمدرسة من مناهج الطب الحديث بدعوى مخالفته للدين فأصدر محمد علي أمرًا جاء فيه:
 "إنه علم حصول معارضة من الشيخ الهراوي في بعض أمور لا تعنيه، وبالنسبة لعلمه وآدابه لم يقابل بشيء من شورى الأطباء، (أي أنه لا يفقه شيء قياسًا على الأطباء) ويشير بأن المذكور ليس ممن يجب احترامهم بل من الأشرار المحتاجين للإيقاظ، حتى أن تزويره معلوم من قبل، فيلزم استحضار المذكور والتنبيه عليه مؤكدًا بعدم تداخله في شيء خارج عن وظيفته، وبأنه ينفى ويطرد فيما لو حصل إقدام ثانيًا على ما يوجب التشكي منه".
 ثم عاد بعد خمسة أيام ليصدر أمرًا أشد لهجة لأنه لاحظ أن المسئولين في الديوان خضعوا لابتزاز الشيخ الهراوي لهم باسم الدين، جاء فيه: "إنه اطلع على المضبطة الصادرة بشأن التقرير المقدم من الشيخ هراوي في حق كلوت بك بخصوص تلامذة مكتب المارستان ـ يقصد مدرسة الطب ـ وعِلم الكيفية، وإن تقرير المذكور من قبيل التزويرات، وبناء عليه يشير بدعوة المذكور إلى ديوان خديوي والتنبيه عليه بعدم تداخله فيما هو خارج عن وظيفته المحولة عليه وهي الترجمة والتصحيح، وإنه إن لم يرتدع يضرب بالنبوت، واستحضار كلوت بك أيضًا والتنبيه عليه بمداومته على السعي والاجتهاد في تعليم أولئك التلامذة علم الطب كمرغوبه".
 هكذا كانت القوى المحافظة دائمًا ضد أي تقدم أو تحديث، وهكذا كان موقف محمد علي الشجاع، يا ترى أين كنا سنصبح الآن لو خضع محمد علي لخزعبلات الشيخ هراوي وأوقف جهود كلوت بك ومنع دراسة التشريح والعلوم الطبية الحديثة!
الدستور 19 أكتوبر 2005


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق