الجمعة، 24 مارس 2017

من أرشيف مقالاتي القديمة. الفتنة الطائفية

مخربشات
الفتنة الطائفية
    عماد أبو غازي

 تصاعدت في الآونة الأخيرة حدة الاحتقان الطائفي في مصر بشكل لافت للنظر، فلا يكاد يمر شهر ـ بل ربما أسبوع ـ إلا ونسمع عن حادث طائفي هنا أو هناك، مرة يكون السبب فتاة مسلمة تحولت إلى المسيحية، ومرة أخرى بسبب فتاة مسيحية تحولت إلى الإسلام، مرة زوجة راهب تتركه وتختفي فيُتهم مسلمون من زملائها في العمل بإخفائها، ومرة تنطلق إشاعة كاذبة حول مصففة شعر مسيحية حولت ابنة خطيب مسجد إلى المسيحية، وتثار من مثل هذه الأمور الصغيرة مشكلات كبرى تهدد الوطن ووحدته، رغم بساطة هذه الأمور ومحدوديتها، فلا الإسلام سيتأثر لو تركه عشرة أو مئة أو حتى  ألف من معتنقيه، ولا المسيحية كذلك، فضلا عن أن حرية اختيار المعتقد الديني وتغييره حق أصيل من حقوق الإنسان لا ينبغي أن يخضع لقيد أو لابتزاز متطرفين دينين من هنا أو هناك، وإذا تغيرت القناعة الدينية لإنسان، فما جدوى عدم الاعتراف بهذا التغيير، وهل إذا فرضنا على شخص أن يظل على دين معين على الورق بخلاف معتقده سيكسب الدين شيء، وإذا كان المعتقد الديني أصلا علاقة بين الإنسان وربه، فمن نخدع إذا بموقفنا هذا ومن نرضي ؟ إننا لا نخدع إلا أنفسنا ولا نرضي إلا غرورنا.
 لقد ظل مسلسل الاحتقان والتوتر يتصاعد ويأخذ شكل الأزمات التي نتعامل معها ونديرها بشكل غير رشيد، والإدارة غير الرشيدة للأزمات الصغيرة تحولها إلى أزمات كبيرة وتقود في النهاية إلى الكارثة، وأخيرا وصل الحدث إلى قمته، بتفجر أزمة السي دي الذي يحوي تسجيلا لعرض مسرحي تم تقديمه داخل كنيسة بالإسكندرية منذ عامين، وقال البعض أنه يتضمن إهانة للإسلام، ووصل الأمر إلى ما وصل إليه يوم الجمعة الماضي، 21 أكتوبر، من مظاهرات دامية حول كنيسة ماري جرجس بمحرم بك، سار فيها آلاف غالبيتهم العظمى لم يشاهدوا المسرحية أو السي دي لكنهم سمعوا بالموضوع فقط، وسقط في المظاهرة قتيل على الأقل.
 من المسئول عن هذا الاحتقان؟ ومن المسئول عن غياب روح التسامح وتقبل الاختلاف في مجتمعنا؟ من المسئول عن هذا التحريض الطائفي البغيض؟ إنها مسئوليتنا جميعا المحرضين والصامتين إزاء هذا التحريض، الدولة وجماعات التطرف الديني إسلامية أو مسيحية والمؤسسات الدينية والمجتمع المدني الذي يتعامل بسلبية مع الحدث.
 لقد عاش المجتمع المصري متماسكا منذ توحدت مصر في الألف الرابع قبل الميلاد، واستمر كيانه الموحد لآلاف السنين لقيامه على احترام مبدأ التعددية الدينية والمذهبية، وقبول كل طرف للآخر المختلف معه في الدين والعقيدة، كان هذا حالنا قبل دخول المسيحية مصر واستمر بعدها، وكان هذا حالنا أيضا قبل دخول الإسلام مصر واستمر بعده، لم تنجح أفكار وافدة أو تدخل أجنبي في تغيير القاعدة الذهبية للمجتمع المصري، قاعدة التعدد في إطار الوحدة، بالطبع كانت هناك دوما لحظات ضعف تصيب روح المجتمع أو لحظات تحول تخلخل القناعات الأساسية للمصريين، تنجح فيها قوى التطرف الديني أو قوى التدخل الأجنبي في إثارة نزعات الطائفية البغيضة، لكن حكمة العقلاء كانت تتغلب في النهاية، فما الذي أصابنا اليوم؟
 إن ما أصابنا من خلل يرجع إلى عدة عوامل مجتمعة، أولها سيادة روح التطرف الديني الغوغائي لدى المسلمين والمسيحيين على حد سواء، واختراق مؤسسات التعليم والإعلام بالفكر الديني المتطرف الذي يلغي الآخر وينفيه، في ظل تراخي الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية عن مواجهة هذا التوجه بل تواطأها أحيانا معه، والاكتفاء بموسمية التعامل مع الأحداث الطائفية بدلا من تأسيس منهج للمواجهة، وتقاعس المجتمع في التصدي لثقافة التعصب، وغياب دور القوى العلمانية في وقف مد التطرف الديني الغوغائي من الجانبين وفي حماية وحدة الوطن وكيانه، لقد تخلينا عن تقاليد الثورة المصرية العظيمة ثورة 19 التي حققت وحدة الأمة في أصعب الظروف تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، وتركنا أنفسنا لقيم وتقاليد تعلي الانتماء الديني على الانتماء الوطني وتضعه في مواجهته.
 لقد أصبحت هناك ضرورة ملحة لمراجعة الخطاب الديني المتطرف لدى الجانبين ومواجهته بخطاب عقلاني علماني يعلي قيم التسامح وقبول الآخر التي هي تقاليد مصرية قديمة، ويعود بنا إلى أسلوب التعامل بمنطق المواطنة لا منطق الأغلبية والأقلية، وإلى التأكيد على أن الانتماء الوطني ينبغي أن يعلو فوق كل انتماء، فلا محل للمخاطرة بكيان الوطن من أجل أفكار التعصب الديني.
 وبفرض أن خطأ وقع هنا أو هناك من هذا أو من ذاك، هل نشعلها نارا تدمر أمامها كل شيء وتهدد سلامة الوطن ووحدة الأمة أم نتصرف بعقل ونتحلى بروح التسامح ونتعامل مع الخطاء في حدوده، ولنتذكر مقولة الإمام محمد عبده: "إن التحامل على شخص بعينه لا ينبغي أن يتخذ ذريعة للطعن في طائفة أو أمة أو ملة، فإن ذلك اعتداء على غير معتد، ... وليس من اللائق بأصحاب الجرائد أن يعمدوا إلى إحدى الطوائف المتوطنة في أرض واحدة فيستعملوها بشيء من الطعن، أو ينسبوها إلى شائن العمل، تعللا بأن رجلا أو رجالا منها قد استهدفوا لذلك".
 وأخيرا، علينا ألا ننسى أن الاحتلال البريطاني لمصر بدأ بحادث طائفي صغير وقع في الإسكندرية كان مبررا لاحتلال دام أكثر من سبعين سنة.
الدستور 26 أكتوبر 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق