الأحد، 26 مارس 2017

مصر وحضارة سبعة آلاف عام كوارث ( 2/2 ) من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
مصر وحضارة سبعة آلاف عام كوارث ( 2/2 )
عماد أبو غازي
 إذا تجولنا بسرعة عبر تاريخ مصر الطويل مع الكوارث لابد أن نقف عند بعض المحطات، أول هذه المحطات ما وصلنا مدونا من عصر قدماء المصريين في النص المعروف بنبوءة صانع الفخار التي تحكي عن سلسلة من الكوارث الطبيعية والكونية قلبت وجه الحياة في مصر، وخلفت حالة من الدمار انعكست على الأوضاع الاجتماعية وترتب عليها تغييرا كبيرا في تكوين المجتمع المصري وترتيب طبقاته.
  محطة أخرى نقف عندها هي زلزال الإسكندرية المدمر الذي قذف بجزء من المدينة إلى قاع البحر، وربما يكون هذا الزلزال هو المسئول عن اختفاء منارة الإسكندرية التي تعد واحدة من عجائب الدنيا السبع القديمة، وتشير الأدلة الأثرية التي لازلنا نكتشفها إلى اليوم في تحت سطح الماء إلى حجم الدمار الذي أصاب المدينة بسبب الزلزال الذي أعقبته موجات مد عالية مثل تسونامي.
 أما العصور الوسطى فهي حافلة بالمجاعات والأوبئة التي سجلها المؤرخون المعاصرون لها، إلا أنه من بين تلك الأحداث نتوقف عند الشدة المستنصرية، المجاعة العظمى التي حلت بالبلاد في زمن الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، ونقص فيها الفيضان ومخازن الدولة خالية من الغلال، فارتفعت الأسعار حتى مات الناس من الجوع، وقد استمرت الشدة سبع سنوات، ويروي المؤرخون أن الناس في هذه المجاعة أكلوا القطط والكلاب حتى بلغ ثمن الكلب خمسة دنانير، بل أن الناس أكلوا بعضهم البعض، فكانت طوائف من الناس تجلس بأعلى البيوت ومعهم خطاطيف فإذا شاهدوا شخص يسير بمفرده اصطادوه بالخطاف وذبحوه وأكلوه، ورغم المبالغة في هذه الروايات إلا أنه تكشف عن حجم المأساة التي عاشتها مصر.
 أما الفناء الكبير فيقابل الموت الأسود الذي انتشر في أوروبا في القرن 14 م، وهو موجة من موجات الطاعون اجتاحات العالم القديم كله، وسقط ضحيتها عشرات الألوف من البشر، وكان هذا الوباء فاتحة لانطلاق أوروبا نحو العصر الحديث، لكنه كان في الشرق وفي مصر كارثة بكل المعايير، لقد امتدت آثار الوباء وتفاعلت مع موجات القحط المتوالية فدمرت المجتمع المصري كله حتى سقط فريسة سهلة في يد الاحتلال العثماني، وإذا كانت أوروبا قد تعافت سريعا من آثار الطاعون، فإن الأزمة استمرت في مصر بسبب الفساد الإداري والسياسي الذي استشرى في دولة المماليك.
طوال العصور الوسطى كان أسلوب مواجهة الكوارث وإدارة الأزمات يتمثل في شكل من أشكال التكافل بين في تحمل المسئولية بين الدولة وأثرياء المجتمع، فالدولة تفتح مخازن الغلال ويتكفل الأمراء أيضا بفتح مخازنهم حتى تنفرج الأزمة، وفي حالة الأوبئة واسعة الانتشار كانت إجراءات الإسراع بدفن الموتى من خلال مؤسسات الوقف الخيري تساهم في محاصرة انتشار المرض، لكن الكارثة كانت تتفاقم إذا تقاعست الدولة عن القيام بواجبها، أو حاول الأغنياء استغلالها لصالحهم، وفي القرن التاسع عشر بدأت مصر تعرف النظم الحديثة لمواجهة الأزمات فبدأت مشروعات الري الكبرى مثل القناطر والخزانات لتلافي أخطار نقص الفيضان وزيادته، ونقلت مصر نظام الحجر الطبي عن أوروبا وطبقته لأول مرة في عصر محمد علي لمحاصرة الأوبئة.
 وإذا انتقلنا إلى تاريخنا القريب فإن وباء الكوليرا يشكل أكبر الكوارث الطبيعية التي عشناها، وهي بسيطة إلى جوانب كوارث الآخرين، ومن أشهر موجات الكوليرا التي ضربت مصر الوباء الذي ظهر في سبتمبر 1947، في زمن حكومة النقراشي باشا، ومات منه أكثر من عشرة آلاف.
 ويصف المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي مقاومة الوباء فيقول: " ظهرت طبقات الشعب في هذا الوباء متضامنة في مكافحته، واعية للوسائل التي تقي الناس والبلاد شره، ودل مسلك الشعب في هذه الفترة على مبلغ إدراكه وتقدمه في ميدان الحضارة والثقافة والوعي القومي. وكانت نهايته في أوائل ديسمبر من تلك السنة، وكان التغلب عليه في هذه المدة الوجيزة مظهرا من مظاهر التقدم في أداة الحكم وفي نفسية الشعب".
 هذا الوباء تعاملت معه السينما المصرية من خلال فيلمين: "صراع الأبطال" لتوفيق صالح و"اليوم السادس" ليوسف شاهين.
 بعدها ب23 سنة ضربت الكوليرا مصر مرة أخرى في صيف 1970، لكن التعامل كان مختلفا تماما، لقد رفضت الحكومة الاعتراف بوجود الوباء، واتبعت أسلوب تسمية الكوارث بغير مسمياتها أو إنكارها أصلا، فمثلما سموا الهزيمة في 67 نكسة، تمت تسمية الكوليرا منذ 1970 أمراض الصيف، ولم يسمح بالطبع للمواطنين بمواجهة الوباء لأنه أصلا الدولة لم تعترف بوجوده فكيف تسمح لنا بمواجهته، وبستر ربنا فقط تمت محاصرة الوباء، لكنه يظهر بين عام وآخر بصورة محدودة ونسميه برضه أمراض صيف، ويكشف الفارق بين التعامل مع الوباء في 1947 و1970 الفارق بين قيم العصر الليبرالي وقيم العصر الشمولي.
 وبالطبع لا ننسى في سجل كوارثنا الطبيعية زلزال 1992 الذي أحسسنا بشدته لكن خسائره كانت محدودة جدا قياسا على ما يقع من زلازل في بلدان أخرى.
 وإذا كان حظنا في الكوارث الطبيعية معقول، فإن كارثتنا في حوادث الإهمال وأبرزها في سنواتنا الأخيرة الحرائق التي يروح ضحيتها العشرات نتيجة لأخطاء البشر.
 وفي كل الأحوال فإن إدارة الأزمات هي الفارق بين النجاح في مواجهة كارثة والخروج منها بأقل الخسائر أو الخروج منها مدمرين، فهل سننجح في مواجهة أنفلونزا الطيور إذا دهمتنا.
الدستور 23 نوفمبر 2005

هناك تعليق واحد:

  1. رائع كالعادة يا دكتور عماد، وتفتح لي آفاقًا جديدة للتفكير ومحاولة الفهم، كما عودتني من أيام الكلية.
    لفت نظري مقارنة الكوارث السابقة كلها مع تعامل الدولة مع الكوليرا في 1970 و1974. فهي توحي بوعي في معظم الفترات السابقة وتجاهل وغباء في 1970 و 1974. إذا حاولنا أن نفهم سبب الاختلاف بشكل أدق (على مستوى دراسة أكاديمية مثلا)، فهل ندرسه من منظور أسلوب الحكم، أم منظور القيم السائدة في المجتمع ولدى الحكام، أم منظور الوعي بشكل عام، أم أن الأمر كله يدور حول رؤية المجتمع لنفسه ولبيئته وللحكام ودورهم؟

    ردحذف