الجمعة، 10 مارس 2017

مخربشات
شيخ المؤرخين ... وفارس المحققين

عماد أبو غازي

 تلقيت منذ أسابيع قليلة هدية ثمينة، نسخة من أحدث طبعة محققة لكتاب  "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" للمقريزي، وقد حققها وقدم لها بدراسة وافية وعلق عليها وأعد كشافاتها المؤرخ وخبير المخطوطات الدكتور أيمن فؤاد سيد الذي قدم لي هذه الهدية، عدت إلى المنزل في حالة من النشوة حاملًا الصندوق الذي يضم المجلدات الستة الضخمة التي صدرت عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن ما بين عامي 2002 و2004، ويرجع سر سعادتي بهذه الهدية إلى عدة أسباب، مؤلف هذا العمل ومكانته بين مؤرخي عصر المماليك خصوصًا وبين المؤرخين عمومًا، وأهمية الكتاب كمصدر أساسي من مصادر دراسة تاريخ مصر، وروعة العمل الذي قام به المحقق والجهد المضني الذي بذله في إضافة عمل علمي فذ إلى المكتبة العربية ظلت تنتظره لعشرات السنين.
 فالمؤلف هو شيخ مؤرخي العصور الوسطى على الإطلاق، وقد كانت هذه الهدية دافعي للكتابة عنه في مخربشات الأسبوع الماضي، لكن مهما كتبت عن المقريزي في هذا الحيز الصغير فلن أوفيه حقه.
 أما كتاب "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" والمعروف بخطط المقريزي، فأهم مؤلفات الرجل، فقد اشتهر بهذا الكتاب أكثر من غيره من مؤلفاته، كما اشتهر التأليف في الخطط بالمقريزي، وفن كتابة الخطط كما يعرفه الدكتور أيمن فؤاد في مقدمته للكتاب "نوع من الجغرافيا التاريخية الأقليمية"، ويقوم هذا النوع من المؤلفات على دراسة التطور العمراني للمدن وتخطيطها ويتتبع منشأتها ومبانيها وما يرتبط بها من أحداث تاريخية ومن عاش فيها من شخصيات، وخطط المقريزي أهم وأكمل كتاب يتناول خطط مدينة القاهرة وما حولها في زمن المماليك الچراكسة، ولا يقتصر المقريزي في كتابه على دراسة حال المدينة في عصره ـ القرن الخامس عشر الميلادي ـ بل يتتبع تاريخها وتطورها العمراني منذ نشأتها في العصر الفاطمي، والكتاب فضلًا عن أنه دراسة للعمران يتضمن تأريخًا اجتماعيًا وثقافيًا ممتعًا، يعرض فيه مؤلفه للعادات والتقاليد والأعياد والاحتفالات المصرية، إسلامية ومسيحية ويهودية، فضلًا عن الاحتفالات التي ترتبط بمناسبة مصرية عامة كوفاء النيل والنيروز، وما يرتبط بهذه الاحتفالات والأعياد من مظاهر، إنه تاريخ حي لمدينة القاهرة وسكانها في العصور الوسطى، وأذكر أن خطط المقريزي كان أول كتاب من كتب التراث اقتنيته وأنا تلميذ في المرحلة الابتدائية، وتعرفت على المقريزي من خلاله ودفعني لحب التاريخ ودراسته، وكان ذلك عندما صدرت طبعه شعبيه للكتاب عن دار التحرير في منتصف الستينيات، وكانت تصدر في أعداد أسبوعية بسعر قرشين صاغ للعدد إن لم تخني الذاكرة.
 أما المحقق الدكتور أيمن فؤاد سيد فقد تعرفت عليه منذ ربع قرن، وتلقيت على يديه الدروس الأولى في تحقيق المخطوطات، فهو أستاذي الذي أدين له بالكثير في هذا المجال، رغم أن فارق السن بيننا ليس كبيرًا، وتحقيق خطط المقريزي جزء من مشروع كبير لأيمن فؤاد راوده منذ كان يعد للدكتوراه في فرنسا عن تاريخ عواصم مصر الإسلامية حتى نهاية العصر الفاطمي، ومن يومها أصبح حلمه الكبير عمل علمي يتتبع تاريخ العاصمة وعمرانها، وفي هذا السياق جاء تحقيقه للخطط، وكما يقول أيمن فؤاد في دراسته التي قدم بها لفهارس الكتاب: "إن فكرة إخراج نص صحيح وتام لكتاب "المواعظ والاعتبار" للمقريزي، راودت الكثير من المشتغلين بتاريخ وآثار وطبوغرافية مصر الإسلامية، وكذلك إخراج كشاف تحليلي لمحتويات هذا الكتاب الغنية، ولكنها ظلت في إطار الهدف ولم تخرج إلى حيز التحقيق"، وقد دفعه للإقدام على هذا العمل اكتشافه لمسودة الخطط والتي تمثل التصور الأول لمؤلف هذا العمل، وبعد أن نشر هذه المسودة انطلق في عمله الكبير الذي استغرق منه سنوات عدة، فاستعرض نسخ الكتاب المخطوطة وقسمها إلى أربعة أقسام: مسودات المؤلف كتبها بخطه، مبيضات المؤلف كتبها خطه، النسخ المنقولة مباشرة من أصل المؤلف المكتوب بخطه، النسخ التي لا نعرف الأصول التي نقلت عنها، وتتراوح تواريخ الكتابة والنسخ ما بين عصر المؤلف والقرن العشرين وهي موزعه بين مكتبات العالم شرقًا وغربًا، وقد اعتمد على المسودات وعلى النسخ المنقولة مباشرة عن نسخة المؤلف المدونة بخطه مع مقارنة دقيقة لمواضع الاختلاف بينها وبين المسودة وبينها وبين ما جاء في طبعة بولاق التي كنا نعتمد عليها جميعا وأثبت أرقام الصفحات في طبعة بولاق والتي توضح حجم الأخطاء في تلك الطبعة القديمة وما ترتب على الاعتماد عليها من نتائج غير دقيقة، مع الإشارة إلى مواضع إضافة النساخ لما جد بعد المقريزي من تطور المدينة، كذلك قام بإرجاع استشهادات المقريزي إلى أصولها إن كانت قد وصلت إلينا، مع تحديد أماكن المواضع التي ذكرها المقريزي في القاهرة الآن أو الإشارة إلى ما حل محلها، كذلك قام بإلحاق خرائط مساحية حديثة أثبت عليها المواقع، بهدف إعادة بناء لوضع مدينة القاهرة كما كانت في عصر المقريزي مقارنة بها اليوم.
إننا أمام جهد جبار قام به المحقق ليقدم لنا عملًا فذًا قد يكشف عنه ثبت المراجع والمصادر، والكشافات التحليلية الدقيقة والتعليقات العلمية المتميزة والتصدير الذي يعد في حد ذاته دراسة معمقة عن المقريزي وكتابه وكتب الخطط قبله مع دراسة مفصلة عن مخطوطات الكتاب.

الدستور 24 أغسطس 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق