الخميس، 16 مارس 2017

مخربشات
النيروز الذي نسيناه
عماد أبو غازي

 مر علينا في الأسبوع الماضي عيد النيروز أو رأس السنة المصرية، دون أن نتذكره ونحتفل به بما يليق بقدره وأهميته، ربما تاهت المناسبة في غمرة الانتخابات الرئاسية، وفي وسط مأساة حريق بني سويف.
 لقد وافق يوم الأحد 11 سبتمبر اليوم الأول من شهر توت أول شهور السنة المصرية، والذي نسميه عيد النيروز، كان هذا العيد عبر العصور من أهم الأعياد التي يحتفل بها جميع المصريين لارتباطه بالنيل مصدر الحياة في مصر، وقد بدأ المصريون القدماء تقويمهم سنة 4241 قبل الميلاد، أي أننا هذا العام نبدأ سنة 6247 مصرية، وأطلق المصريون على الشهور أسماء الآلهة، وشهر توت مأخوذ من تحوت إله الحكمة ورب القلم ومخترع الكتابة ومقسم الزمن عند المصريين، وقد تم تحوير الاسم في اللغة القبطية إلى توت.
 وتقترن بداية السنة المصرية القديمة بشروق النجم سوبديت الذي يسميه العرب الشعرى اليمانية في الأفق مع شروق الشمس، وقد لاحظ المصريون ارتباط هذه الظاهرة الفلكية بوصول الفيضان إلى مدينة منف، فاتخذوا من هذه المناسبة بداية لتقويمهم النجمي الذي تتكون فيه السنة من 365 يوما وربع، مثل التقويم الشمسي، وقد توصل المصريون القدماء إلى اكتشاف هذا النظام لتتابع الزمن في وقت مبكر للغاية، ومثل هذا التقويم النجمي الذي ترتبط فيه الشهور بفصول السنة الطبيعية ملائم تماما للزراعة، لذلك اعتمد الفلاح المصري في الزراعة على هذا التقويم منذ أكثر من ستة آلاف سنة وما زال.
 وقد كان التقويم المصري القديم مكونا من 12 شهرا كل منها 30 يوما، يعقبها شهر صغير من خمسة أيام اسمه شهر نسئ، ثم اكتشف الكهنة المصريون في عصور لاحقة أن السنة الفعلية 365 يوما وربع، فأضافوا إلى شهر نسئ يوما سادسًا مرة كل أربع سنوات، وكان المصريون يبدءون مع عصر كل حاكم جديد مسلسلًا جديدا للسنوات، إلى أن جاء عصر الاضطهاد الديني الذي تعرض له المصريون الذين اعتنقوا المسيحية على يد الإمبراطور دقلديانوس أواخر القرن الثالث الميلادي، والذي يعرف بعصر الشهداء، فاتخذت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من عام 284م الذي تولى فيه دقلديانوس الحكم بداية لتقويم الشهداء، وقد وصلنا فيه اليوم لسنة 1722.
 أما عن الاحتفال بهذه المناسبة عبر العصور فيقول عالم الآثار المصرية الأستاذ محرم كمال في كتابه الصغير والمهم عن آثار الحضارة المصرية القديمة في حياتنا اليومية، "كان هذا العيد أهم الأعياد التي يحتفل بها المصريون القدماء وكان يجري مهرجان بأكبر بهجة يتصورها العقل... كان يجتمع الرجال والنساء في جماعات كبيرة ويحشرون أنفسهم حشرا في السفن والقوارب دون مراعاة للسن، فإذا استقر بهم المقام بدأ النساء في دق الطبول وأخذ الرجال يوقعون الأنغام على المزمار ويساعدهم فريق آخر بالغناء والأهازيج وثالث بالتصفيق بالأيدي كما جرت العادة في الحفلات الموسيقية في مصر"، وتسجل المقابر المصرية القديمة من مظاهر الاحتفال برأس السنة المصرية كذلك تبادل الهدايا بين الناس.
ورغم توالي عهود الاحتلال الأجنبي على مصر فقد حافظ المصريون على الاحتفال بهذه المناسبة عبر العصور، ويذكر المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي مظاهر الاحتفال برأس السنة المصرية في العصور الوسطى، والذي كان واحدًا من الاحتفالات الكبرى التي يحتفل بها المصريون جميعا مسلمون ومسيحيون، كما كانت الدولة منذ العصر الفاطمي تحتفل على المستوى الرسمي بهذه المناسبة بتوزيع العطايا والخلع إلى جانب الاحتفالات الشعبية، والتي كانت تأخذ شكل كرنفالا شعبيا رائعا يخرج فيه الناس إلى المتنزهات العامة ويرشون بعضهم بالماء، ويختارون من بينهم شخصا ينصبونه أميرًا للنيروز يسير بموكبه في الشوارع والحارات ويفرض على الناس الرسوم ويحصلها منهم ومن يرفض يرشه بالماء، وكل هذا طبعا من باب الدعابة واللهو.
 وكان الاحتفال الشعبي يتوقف في الفترات الذي تتصاعد فيها موجات التطرف الديني في العصور الوسطى إلى أن توقف تمام في العصر العثماني، لكن الجانب الرسمي للمناسبة ظل قائما لارتباط المناسبة بالفيضان وجباية الضرائب، حتى أن السنة المالية في العصر العثماني والقرن التاسع عشر كانت تسمى السنة التوتية نسبة إلى شهر توت، وقد أعادت جمعية التوفيق القبطية الاحتفال بهذه المناسبة مرة أخرى اعتبارًا من عام 1893 لكن الاحتفال أخذ شكل إلقاء الكلمات وإصدار المطبوعات.
لقد حرصت منذ سنوات أن أهنأ أصدقائي بهذه المناسبة، وقد فوجئت بأن الكثيرين منا لا يعرفونها رغم أن الحياة الزراعية في مصر تقوم عليها، وزاد عجبي عندما اكتشفت أن بعض أصدقائي من المسيحيين لا يتذكرون هذا اليوم ويتعجبون عندما أقول لهم كل سنة وأنتم طيبين، فيردوا بمناسبة إيه؟
 إنها دعوة لإعادة الاحتفال شعبيا ورسميا برأس السنة المصرية، أقدم وأهم عيد مصري عبر العصور، ويوم أجازة زيادة مش هيخرب الدنيا، وكل توت وأنتم طيبين.

الدستور 21 سبتمبر 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق