الاثنين، 21 مايو 2018

الثقافة في عصر الوسائط الحديثة... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الثقافة في عصر الوسائط الحديثة
عماد أبو غازي
  في مطلع الشهر الماضي عقدت مجلة العربي الكويتية ندوتها السنوية، ومجلة العربي واحدة من أعرق المجلات الثقافية العربية، جاوز عمرها الخمسين عاما حافظت خلالها على مستواها بين المطبوعات الثقافية العربية الجادة، وقد اختارت المجلة موضوعا مهما لندوتها هذا العام، "الثقافة العربية والوسائط الحديثة"، وشارك في الندوة مثقفون وباحثون من ثماني دول عربية، قدموا مجموعة من الأوراق المهمة التي تناولت هذا الموضوع المهم من زوايا متعددة، ومثل هؤلاء المشاركون أجيالا مختلفة من مثقفي العالم العربي ومبدعيه، كما شكلوا أيضا تمثيلا لمجالات معرفية وإبداعية متنوعة، وقد عالج المشاركون في مداخلاتهم واقع الثقافة العربية في ظل التحولات في مجال وسائط الإنتاج الثقافي والثورة المعرفية والتقنية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، وتأتي أهمية الموضوع من التأثير الضخم لهذه التحولات على المجال الثقافي، الأمر الذي يستدعي منا التوقف أمامه لتحسس مواقع أقدامنا في هذه المرحلة الفارقة في التاريخ الإنساني.
 لقد شهد العقد الأخير من القرن الماضي ـ خاصة في سنواته الأخيرة ـ تطورا هائلا في مجال المعرفة ووسائل اكتسابها بفضل إنجازات ثورة المعلومات المستندة إلى مـا تحقق من تقدم هائل في الاتصالات، وقد انعكس هذا التطور بدوره على عمليات الإنتاج الثقافي في أكثر من اتجـاه، بصورة تجعل الاحتمالات المستقبلية الـواردة فيما يخص الصناعـات الثقافية متعددة، فقد تدفع ثورتـا الاتصالات والمعلومات بالصناعات الثقافية إلى الأمام بقوة بما تقدمانه من إمكانيات كبيرة في إنتاج الثقافة ونشرها، وقد تؤدى إلى ظهور مفـاهيم جديدة للإنتاج الثقافي مغايرة تماما لتلك المفاهيم التي سادت منذ عصر الثورة الصناعية، فمن ناحية ترصد تقارير اليونسكو أن تداخل المنتج الثقافي والمعلوماتي والإعـلامي أصبح ظاهرة واضحة في المجتمعات الجديدة التي قطعت شوطا على طريق بناء أسس حضارة الموجة الثالثة، وإن التطور في تقنيات المعلومات والاتصالات يؤدى كل يـوم إلى مزيد من طمس الحدود بين المنتج المعلوماتي والمنتج الثقافي وإلى تداخلهمـا مع المنتج الترفيهي، فأساليب الإنتاج وهياكله وعمليات التوزيع وظروف استخدام المستهلك للسلعة في الحالات الثلاثة تكاد تكون متطابقة الآن، ومن ناحية أخرى ترصد هذه التقارير أيضا سيطرة أشكال الإنتاج عابرة القارات والتي تتخطى حدود الدول والكيانات القومية، وتتجـاوز الهويات الثقافية لتفرض أنماطـا "عالمية" مدعمة بتقنيات المعـلومات والاتصالات، ويرتبط بذلك هيمنة اللغـة الإنجليزية على التعامل في شبكات المعلومات، تلك الشبكات التي أصبحت تحتل يوما بعد يوم المكانة الأولي بين مصادر اكتساب المعرفة وباتت أهميتها في تداول الإنتاج الثقافي وتسويقه تتزايد بصورة واضحة، الأمر الذي يسهم في ترسيخ هيمنة ثقافة واحدة عالميا الأمر الذي تسعى اليونسكو جاهدة إلى الدعوة لتلافيه.
  وفي اتجاه مقابل تتيح ثورتا المعلومـات والاتصالات إمكانات جديدة في إنتاج الثقافة وتلقيها، ليس فقط على مستوى الدول والمجتمعات بل حتى على المستوى الفردي، فكثيرا ممـا كان يعد صناعـات ثقافية أصبح من الممكن إنتاجه بتكلفة محدودة وتوزيعه بشكل واسع النطـاق بالاستعانة بالتقنيات الحديثة للحاسبات الآلية في الاتصالات ونقل المعـلومات عبر الإنترنت، فقد بات متاحـا لنا أن نستخدم التقنيات الرقمية الحديثة في إنتاج الأفلام والكتب والمصنفات الموسيقية والغنائية وصور الأعمال التشكيلية بتكلفة زهيدة نسبيا وبإمكانيات محدودة تختلف من حالة إلى أخرى، فقد أصبح من الممكن على سبيل المثال أن ينتج المؤلف كتابه اليوم من الألف إلى الياء دون حاجة إلى ناشر ومطابع  وموزعين، حيث يكتبه على حاسبه الشخصي، ثم يوزعه إلكترونيا دون أن يكلف نفسه عناء طباعته ورقيا والبحث عن ناشر وموزع له، كما يحصل على العائد مباشرة كـذلك من خلال بطاقات الائتمان ووسائل الدفع الإلكتروني، وهذا يؤدى في المحصلة النهائية إلى منتج ثقـافي أقل سعرا وأكثر انتشارا، فضلا عن إمكانية التفاعـل المباشر بين المؤلف والمتلقي، كذلك تضيف التقنيات الرقمية الكثير من الإمكانيات في مجال التأليف الموسيقى من ناحية وتداول المؤلفات الموسيقية من ناحية أخرى، الأمر الذي ينطبق بشكل ما على صناعة السينما كذلك. إن هذا العصر بقدر مـا يطرح احتمالات الهيمنة الثقافية للدول الأقوى وفرض أنماطها الثقافية بصورة كونية، بقدر ما يفتح الباب أمام الدول الأقل تطورا لتلحق بركب العصر الجديد وتعوض ما فاتها، بقدر ما يطرح أيضا إمكانيات تحقيق فردية الإنسان.
 ومع التقدم السريـع في مجال البرمجيات والذي نعيشه كل يوم ويشعر بآثاره في حياتنا اليومية كل مستخدمو الحاسبات الشخصية، ومع تطور شبكات الاتصالات بالاعتماد المتزايد على الاتصال المباشر بالأقمـار الصناعية وباستخدام الألياف البـصرية، فسوف تشـهد السنوات القليلة القـادمة تعاظما هائلا على صعيد تطوير الإنتاج الثقافي اعتمادا على القـدرات والإمكانيات التي تتيحهـا ثورة المعلومات والاتصالات.
  لذلك فإن تأثير حضارة الموجة الثالثة ـ ودعامتيها ثورة المعلومات وثورة الاتصالات والعولمة كتجسيد لها ـ على الصناعات الثقافية على المستوى القومي من الممكن أن يكون تأثيرا إيجابيا بقدر ما إنه من الممكن أن يكون سلبيا، والأمر يتوقف في جميع الأحوال على تفاعلنا مع العصر الجديد ومعطياته الفكرية والتقنية على حد سواء.
 من هنا فنحن في حاجة إلي التعايش مع العولمة والبحث عن مكان داخلها والسعي إلى العمل على أنسنتها والتصدي لسلبياتها، أكثر مما نحن في حـاجة إلى الانعزال عن التطورات العالمية الجديدة والصدام مع معطيات العصر الجديد، كي لا نفقد موضع قدمنا فيه مثلما فقدناه في عصر الثورة الصناعية عندما عجزنا عن إنجاز عملية التحديث.
 ففي إطار التطور السريع لتقنيات الاتصال وما صاحبها من ثورة في تقنيات المعلومات، لا بد من تناول أبعاد هذه الثورة وتأثيراتها المختلفة في الثقافة الوطنية بالبحث لإعادة النظر في تنظيم المجتمع وكيفية استغلال موارده المتاحة لنتعايش مع عالم اليوم الذي أصبحت فيه المعرفة وتقنية الاتصال ومدى سرعتها في تداول المعلومات هي العامل الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي بل والسيطرة السياسية على كافة المستويات، حيث المعرفة هي السلطة والقوة.
الدستور 7 أبريل 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق