الخميس، 3 مايو 2018

أيامه وأيامنا... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
أيامه وأيامنا
عماد أبو غازي



 كنت أنوي أن أستأنف الكتابة هذا الأسبوع عن نتائج قمة كوبنهاجن للمناخ، لكن مكالمة تليفونية تلقيتها ظهر الخميس الماضي جعلتني أترك موضوع كوبنهاجن والاحتباس الحراري، وأكتب عن "الاحتباس الفكري" الذي يهدد مجتمعنا بتجريف البقية الباقية من عقل الأمة، فقد اتصلت بي الزميلة منى أبو النصر من صفحة الثقافة بجريدة الشروق لتسألني عن رأيي فيما يتردد من أن خبراء ومستشاري اللغة العربية في وزارة التربية والتعليم سيجتمعون لتدارس إيقاف تدريس رواية الأيام لطه حسين، بدعوى أنها تسيئ للأزهر وشيوخه، والأيام هي النص الأدبي المقرر على طلاب الثانوية العامة، وكان قد توقف تدريسها لسنوات ثم عادت لتقرر مرة أخرى منذ حوالي عامين على ما أذكر.
 كنت أتصور أن الظلاميين في وزارة "التربية والتعليم" قد اكتفوا بما فعلوه في الأيام منذ عادت نصا أدبيا مقررا على طلاب الثانوية العامة، فوقتها ثار جدل واسع حول إعادتها كنص أدبي مقرر، فاعترض بعض مستشاري اللغة العربية وحاولوا منع تدريسها بنفس الحجة، ثم انتهوا إلى تدريسها بعد حذف بعض النصوص منها، مرة بدعوى أنها غير ملائمة لطلاب المرحلة الثانوية وطالباتها، ومرة بدعوى أن الممارسة التي تم بمقتضاها طبع الكتاب حددت عدد الصفحات ولابد من "تقييف" النص في حدود هذا العدد من الصفحات!!!
 يومها تم توجيه الدعوة لي للظهور في مناظرة تلفزيونية على الهواء في إحدى القنوات الفضائية، أظنها كانت العربية، وكان طرف المناظرة الثاني الخبير التربوي الدكتور رشدي طعيمة، ولم أستطع أن أقتنع بأي من المبررات التي ساقها ليدعم وجهة نظره، ووجهة نظر مستشاري اللغة العربية في الوزارة التي يفترض أن مهمتها التربية والتعليم.
 وسمعت بعد ذلك أنهم أوكلوا المهمة، مهمة "تهذيب" النص لواحد من نقاد الأدب، ولا أعرف من ذا الذي طاوعته نفسه للعبث بنص طه حسين، ومن الذي قبل ضميره العلمي هذه المهمة.
 لقد قرأت الأيام وأنا طالب في الصف الأول الإعدادي وكثيرين من أبناء جيلي طالعوها في نفس المرحلة العمرية، ولم نجد فيها ما يخدش الحياء، ولم نستشعر فيها إهانة أو مساس بالأزهر، لكن طه حسين كان يوجه نقده لعقول جامدة كانت موجودة في تلك الجامعة العريقة وقت أن كان طالبا بها، بل أذكر جيدا أن أبي كان يقرأ لنا في أمسياته معنا صفحات من "الأيام" قبل أن نكون قادرين على قرائتها بأنفسنا.
 لقد ترك طه حسين الأزهر بما له وما عليه، وأصبح طه حسين واحدا من أبرز رواد نهضتنا الحديثة بين أبناء جيله، وأسهم في بناء العقل المصري في مرحلة ما بعد ثورة 1919، تلك المرحلة التي ظهرت فيها أبرز العقول المصرية في الفكر والثقافة والفن والأدب، أما أساتذته ومعارضوه من رجال الأزهر فلم نسمع لهم ذكرا ولم نعرف لهم إسهاما في الثقافة المصرية.
 خاض طه حسين معارك فكرية عديدة منذ اشتغل بالتدريس في الجامعة المصرية القديمة في العقد الثاني من القرن الماضي، كانت كلها معارك ضد الجمود الفكري والتخلف، معارك من أجل حرية الفكر، من أجل إعمال العقل، من أجل احترام القيم الجامعية، وانتهت معركته في بداية الثلاثينيات بإبعاده عن عمادة كلية الآداب وعن الجامعة كلها ونقله إلى وزارة المعارف، في عهد وزارة صدقي باشا التي كانت حكومة انقلاب دستوري، فاستقال مدير الجامعة أحمد لطفي السيد احتجاجا على التدخل في شئون الجامعة، ونصف مثقفو مصر وأدبائها طه حسين عميدا للأدب العربي، ومن يومها اقتران هذا اللقب باسمه، ولم تمض سنوات قليلة إلا وعاد طه حسين إلى مكانه في الجامعة، واستقبله الطلاب بمظاهرة ترحيب وحملوه على الأعناق، وظلت مكانة طه حسين تعلو وترتفع حتى صار وزيرا للمعارف في وزارة الوفد الأخيرة، وحقق يومها أحد أحلامه، مجانية التعليم، جاعلا التعليم كالماء والهواء، لكنه كان تعليما نظيفا نقيا مفيدا كماء أيامه وهوائها، أما الوزير الذي عزله من الجامعة فلم يبق له أثر يعرفه به الناس ولا اسم يذكر.
 لقد كان أعداء طه حسين دوما خليطا من أعداء الحرية وأنصار الجمود الفكري ودعاة الظلام في الأزهر أو في الجامعة أو في الحكومة، بينما كان أنصاره هم دعاة الحرية والتقدم والتطور والانطلاق بمجتمعنا إلى الأمام، فليس حقيقيا أن الأزهر كان ضد طه حسين، بل حفنه من مغلقي العقول في الأزهر، أو لم يكن الشيخ مصطفى عبد الرازق العالم الأزهري الجليل، ثم شيخ الجامع الأزهر من أبرز مناصري طه حسين؟
 إذا القضية ليست الأزهر بل دعاة الجمود.
 في النهاية، فإن هذا الطرح الذي يطرحه السادة المستشارين والخبراء فيما يسمى وزارة التربية والتعليم يجب أن يكون فرصة لإعادة النظر فيهم وليس في كتاب الأيام، فحال التعليم العام في مصر الذي لا يخرج لنا سوى طلاب أتقنوا في أحسن الأحوال، إن كانوا قد أتقنوا شيئا، الأجابات النموذجية على الأسئلة التي يلقنوها، دون فهم أو قدرة على الابتكار أو اكتساب معرفة حقيقية، فلم تعد مدارسنا تقدم تربية ولا تعليم ولا معرفة، وحلت محلها مراكز الدروس الخصوصية التي يغيب طلاب الثانوية العامة عن مدارسهم ليذهبوا إليها.
 وبدلا من أن يبحث السادة المستشارين كيف يصفون حسابهم مع طه حسين، ليبحثوا كيف تدهور حال اللغة العربية بفضل مناهجهم العقيمة وعقولهم العاجزة عن الابتكار والإبداع، وليأتوا لنحاسبهم نحن على ما تؤدي إليه سياستهم ومشورتهم من تدمير لمستقبل هذا الوطن، واعتقد ـ وأنا مدرس جامعي ـ أن مستوى الطلاب الذين يلتحقون بالجامعة يكفي ليشى بمستوى القرارات والاتجاهات التي يتخذها السادة المستشارين في الوزارة.
الدستور 1 يناير 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق