الخميس، 17 مايو 2018

الثورة الصناعية والثورة الثقافية... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الثورة الصناعية والثورة الثقافية
عماد أبو غازي
  شهد القرن التاسع عشر تطورا فـارقا في مجال الصناعـات الثقافية على النطاق العالمي بفضل التطور التقني الذي تحقق بفضل منجزات الثورة الصناعية، والذي أثر بصورة واضحة على أدوات انتاج الثقافة، فبعد سنوات طويلة من اختراع جوتنبرج للمطبعة جاء عصر التطورات السريعة.
 فبينما استغرق الإنسان الأول عشرات الآلاف من السنين ليصل إلى ابتكار الكتابة، فامتلك بذلك ذاكرة خارجية قادرة على حفظ الخبرة ونقلها عبر الزمان والمكان، وبينما استغرق الأمر بضع آلاف من السنين ليصل الإنسان إلى اختراع الطباعة، لم يحتج الأمر سوى مئات قليلة من السنين ليحقق البشر إنجازا كبيرا ثانيا في مجال إنتاج الثقافة باختراع التصوير الفوتوغرافي، ثم شهدت فترة لا تجاوز نصف قرن ثلاثة اختراعات كبرى، ففي نهاية النصف الأول من القـرن التاسع عشر كان اختراع كاميرات التصوير الفوتوغرافي، ثم ظهـرت الأشكال الأولي لتقنيات التسجيلات الصوتية، وبعدها كان اختراع السينما مع أواخر القرن نفسه.
  وكان لكـل تلك الابتكارات الجديدة نتائج حاسمة في رسوخ الصناعـات الثقافية وتطورهـا، وعبر القرن العشرين تطورت هذه التقنيات ـ تقنيات الوسائط المسموعة والمرئية وتلك التي تجمع بين السمع والرؤية (السمعبـصريات) ـ وكذلك تقنيات الطباعة تطورا هائلا، وإن كان تطور الصناعات الثقافية وسيادتها على الإنتاج الثقافي لم يسر في خط صاعد باستمرار مثلما هو الحال في تاريخ التطور التقني الذي استمر في صعود متواصل، فلم تقض الصناعات الثقافية على الأشكال القديمة والتقليدية للإنتاج الثقافي.
  وقد دفع هذا التطور التقني بالإبداع الذي يأخذ شكل منتجات الصناعات الثقافية ليحتل مكانا متميزا في العمل الثقافي، ولم يعد الأمر قاصرا على انتشار المعرفة المكتوبة فقط بواسطة الطباعة، بل أصبح من الممكن نشر فنون الموسيقى والغناء عبر المكان والزمان بواسطة الاسطوانات، ثم شرائط التسجيل بأنواعها المختلفة، وأخيرا بواسطة الأقـراص المدمجة. كذلك مكن ظهور التصوير الإنسانية من أن تقـوم بتوثيق تراثها المادي والمعنوي وإعادة إنتاج نسـخ منه قابلة للتسويق، كما أتاح تحويل النصوص الأدبية إلى أشكال مرئية.
  ثم كان التطور في وسائل الاتصال عن بعد باختراع الراديو ثم التليفزيون عاملا أضاف قيمة جديدة للصناعـات الثقافية، وأضفى عليها قوة وتميزا، وحقق لهـا انتشارا جماهيريا أكبر بكثير مما تحقق مع التطور التقني في أدوات إنتاج الثقافة، بل أدى هذا التطور إلى ظهور صناعـات ثقافية جديدة، قامت على أنـواع أدبية وفنية لم تكن معروفة من قبل كالدراما الإذاعية والتلفزيونية.
  لقد كان اختراع الطباعة وسيلة لانتشار المعرفة وتراكمها، ووسيلة أيضا لاختراقها حدود الطبقات العليا للمجتمع، فكانت لهذا الاختراع آثاره الاجتماعية والسياسية فضلا عن أثره الثقافي، ثم جاءت الاختراعات الثلاثة الكبرى في مجال الصورة والصوت، آلات التصوير الفوتوغرافي ووسائل التسجيل الصوتي ثم آلة التصوير السينمائي لتحدث نقلات جديدة في مجال الإبداع.
 والأمر المؤكد أن الفضل في ظهور الصناعات الثقافية وتطورها يرجع لأمور تقع خارج نطاق محتوى الإنتاج الثقافي ومضمونه تمامـا، فالثورة التقنية المواكـبة للثورة الصناعية هي المسئولة عن هذا التطور بشكل أسـاسي، فباستثناء الطباعة ترجع كل الإنجازات التي قامت عليها الصناعات الثقافية بالكامل إلى عصر الثورة الصناعية، بل إن الطباعة التي ظهرت قبل ذلك العصر بعـدة قرون شهدت نقلة فارقة بفضل منجزات الثورة الصناعية، ومن هنا فلا غرابة في أن عصر الثورة الصناعية قد صبغ الصناعات الثقافية بصبغته وفرض عليها قيمه، بمـا في ذلك منطق الربح والخسارة، وأيضا المنافسة الضارية بين الصناعات القومية من أجل السيطرة على الأسواق وبسط الهيمنة عليها، وقد أخذت هذه المنافسة أبعادا أكثر عمقا وخطورة في حالة الصناعات الثقافية، حيث أن محتواها يمس بشكل مباشر منظومة القيم والأفكار السائدة في كل مجتمع من المجتمعات، فظهرت مفاهيم مثل الاستعمار الثقافي والتبعية الثقافية وثقافة التبعية.
 ولا شك في أن الصناعات الثقافية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتحديث، فلقد ارتبط التحديث مفهوما ومصطلحا وسلوكا بعصر الثورة الصناعية وبما أنتجته من قيم أو بحضارة الموجة الثانية إذا استخدمنا مصطلحات ألفن توفلر.
 لقد ظهر مفهـوم الصناعات الثقافية عندما كانت قيم الثورة الصناعية هي السائدة باعتبار الصناعة القيمة العليا، لكن الآن ومع ثورة المعلومات والاتصالات وقيمها الجديدة وما يصاحبها من تطورات ما وضع الصناعات الثقافية؟ وهل استمرت أساليب الإنتاج الثقـافي نفسها، أم أنها تغيرت وتطورت؟ وهل مـازال لمصطلح الصناعات الثقافية استخدامه؟ وهل مازالت له دلالاته نفسها؟
الدستور 12 مارس 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق