الخميس، 3 مايو 2018

الدين لله والوطن للجميع... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات

الدين لله والوطن للجميع

عماد أبو غازي
 ما حدث في نجع حمادي ليلية عيد الميلاد المجيد جريمة بشعة، وبغض النظر عن الفاعل والمحرض ومن يقف وراء الجريمة، فإن ما حدث يستدعي منا جميعا وقفة للتأمل في الخلفيات الثقافية والفكرية وراء هذا العمل الإجرامي، وقفة لنتساءل ما الذي حدث للمصريين حتى تنطلق مجموعة من بينهم لتقتل الأخريين على الهوية الدينية قتلا عشوائيا، تقتلهم وهم مسالمين يخرجون من دار للعبادة بعد احتفال بعيد من أهم الأعياد الدينية للمسيحيين؟
 إن ملاحقة المشتبه فيهم والقبض عليهم مسئولية رجال الأمن، وتحديد القتلة والمحرضين وتوجيه الاتهام إليهم مسئولية النيابة العامة، ومعاقبتهم مسئولية القضاء، وبغض النظر عما سوف تصل له جهود الأمن وإجراءات النيابة وأحكام القضاء، يبقى دورنا، دورنا نحن من ننتمي إلى الجماعة الثقافية في هذا المجتمع، بل دورنا كمواطنين.
 أظن أن مسئوليتنا كمواطنين ننتمي إلى هذا البلد ونحرص على سلامته تفرض علينا أن نبحث في السبب وراء التغير الذي أصاب المصريين وأدى بنا إلى ما وصلنا إليه، ونعمل على تدارك الأمر وعلاجه على المستوى الثقافي والفكري.
 لقد شيدت شعب مصر حضارته منذ أقدم العصور على مبدأ قبول التعددية والاختلاف، تعايش المعتقدات والأفكار، واستمرت هذه الحضارة للآلاف السنين معتمدة على تلك القاعدة الذهبية، أبناء لبلد واحد نحمل معتقدات متعددة ونتعايش معا، ومع محاولات فرض فكرة واحدة أو دين واحد أو مذهب واحد يأتي دوما الانهيار.
 لقد مرت على مصر قرون من الحكم الأجنبي اهتزت فيها بعض هذه القيم لدى قطاعات من المجتمع المصري، لكن مصر مع نهضتها الحديثة في القرن التاسع عشر عرفت مرحلة جديدة من إعادة صياغة العلاقات داخل المجتمع المصري في إطار مشروع لبناء دولة مدنية تقوم على أساس مبدأ المواطنة الذي لا يعرف التمييز بين أبناء الوطن الواحد بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو العرق، بدأت الجماعة الوطنية المصرية تنصهر على أسس جديدة مستبطنة التراث المصري العريق الذي يحترم التعددية داخل إطار الكيان الموحد.
 في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر شعار "مصر للمصريين" شعارا ناظما للحركة الوطنية والديمقراطية في مصر خاصة في أوج صعودها في سبعينيات القرن، وإذا كان الشعار في ظاهره يحمل المواجهة مع الآخر الخارجي، سواء كان هذا الآخر متمثلا في الغرب الأوروبي، أو متمثلا في التبعية الرسمية للدولة العلية العثمانية، فإن جوهر الشعار يحمل معنى أن المصريين كيان واحد، وإن هذا الوطن وطنهم، ويحمل معنى فصل عرى الارتباط مع دولة "الخلافة" العثمانية.
 كانت ملامح مصر جديدة تتبلور، يظهر مفهوم المواطنة الذي يشمل جميع من يعيشون على أرض مصر باختلاف أديانهم وأصولهم في مواجهة مفهوم الرعوية والذمة، عندما رفع المصريون لائحة طالبوا فيها بالحكم الدستوري وقع عليها الأعيان والتجار والمهنيين والمشايخ والقسس والحاخامات، وعندما قامت الثورة العربية، ثم تصدى قادتها لمواجهة الغزو البريطاني لاحتلال مصر في صيف 1882، أصدر خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد الثاني فرمانه الشهير بعصيان العرابيين وخروجهم على الملة ليمكن الانجليز من احتلال مصر، فسقطت دعاوى الرابطة الإسلامية وعلت قيمة الوطنية المصرية ومعناها.
 وبلغت مفاهيم المواطنة قمة نضجها مع الثورة المصرية سنة 1919 وشعارها العظيم "الدين لله والوطن للجميع"، ذلك الشعار الذي أصبحنا نحتاج إليه بشدة في أيامنا هذه، نحتاجه لمواجهة دعاوى التفرقة والتمييز بين أبناء الوطن، لمواجهة دعاوى تمزيق الوطن.
 لقد عبر فنان الشعب سيد درويش عن القيم التي أرستها الثورة في أغانيه التي رددها الناس خلفه، مؤكدا على قيم المواطنة، وعلى إنه لا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي، عندما ينشد وينشد وراءه المصريون:
 "إيه نصارى ومسلمين أل إيه ويهود   دي العبارة أصل واحد م الجدود"
وعلى أن القيمة العليا هي قيمة الانتماء للوطن، عندما يقول:
"فلينزل غضب الشعب على من يتصدى للوطنية"
 وكأنه بكلماته تلك التي تغنى بها المصريون في سنوات المد الوطني الديمقراطي يعيد إنتاج الصورة التي حفرها المصري القديم، والتي تتكرر مرات ومرات عبر عصور حضارتنا المصرية القديمة، وعبر من خلالها عن وحدة عن وحدة بلاده،التي رمز إليها بقصبة هوائية ورئتين، وإن انفصالهما يؤدي إلى موت الجسد المصري، كانت الوحدة وقتها بين شمال وجنوب لكل منهما تراثه ومعتقداته، لكنهما اندمجا في كيان واحد لا ينفصل، وفي مسيرة النضال الوطني الديمقراطي للشعب المصري ظهرت وحدة أبناء الأمة باختلاف أديانهم وعقائدهم في مواجهة المحتل الأجنبي والسلطة المستبدة للملك.
 كانت مصر تتطور في مسار طبيعي لتصبح دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تعلو فيها قيمة المواطنة على الاختلافات الدينية، يصبح فيها مسيحي مصري رئيسا لمجلس النواب دون أدنى حساسية، يتنافس المسلمون والمسيحيون في الانتخابات التشريعية على أساس البرامج السياسية والانتماءات الحزبية، دون اعتبار لاختلاف الأديان والعقائد، هكذا كانت مصر فماذا حدث لنا؟
للحديث بقية
الدستور 8 يناير 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق