الأربعاء، 30 أغسطس 2017

ووقف أحد السامعين... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
ووقف أحد السامعين...
عماد أبو غازي
 قرر الوفد وزعيمه سعد ألا يفوت فرصة لمهاجمة الاحتلال والدعاية لقضية الاستقلال إلا ويستغلها أفضل استغلال، خصوصًا بعد أن صادرت السلطات العسكرية البريطانية الوفد ورجالها في الاجتماع بمنازلهم.


 وجاءت الفرصة على طبق من ذهب بمناسبة مناقشة مشروع قانون العقوبات الجديد الذي كانت سلطات الحماية البريطانية في مصر تعد لإصداره ضمن سلسلة من التعديلات التشريعية التي ترسخ سلطة الاحتلال في مصر وتجعل من نظامها القانوني نظامًا تابعًا، بما في ذلك إصدار قانون أساسي (دستور) جديد. وهي التعديلات المعروفة بقوانين برونيت نسبة إلى السير وليم برونيت مستشار دار الحماية البريطانية في مصر، وكان المستشارون الإنجليز يروجون لهذه التعديلات التشريعية ويقومون بالدعاية لها في الأوساط القانونية والتشريعية المصرية. وفي هذا السياق دعت الجمعية السلطانية للاقتصاد السياسي والتشريع والأحصاء لاجتماع في مقرها يوم 7 فبراير سنة 1919 لسماع المحاضرة مستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية، وكان بريسفال قد ألقى محاضرة في نفس الموضوع في يوم 17 يناير، وتلك كانت محاضرته الثانية في نفس الموضوع.
 ذهب سعد وعدد كبير من أعضاء الوفد المصري لحضور الاجتماع ضمن حشد ضخم من رجال السياسة والقانون من بينهم عبد الخالق باشا ثروت وزير الحقانية، وبعد أن انتهى بريسفال من محاضرته التي ألقها بالفرنسية، إعتلى سعد منصة الخطابة وأعلن أن لديه ملاحظات على المحاضرة وعلى مشروع القانون، وتحدث بالعربية موضحًا أن بريسفال يعرف العربية، لكن الحقيقة أن سعد لم يكن يقصد بريسفال بحديثه، إنما كان هدفه جمهور الحضور وعبرهم كل أبناء الشعب المصري، كما أن نقد مشروع القانون الجديد لم يكن هدف سعد الأساسي من الحضور والتعليق بل طرح قضية الاستقلال من خلال مناقشة هذا القانون، إنه أسلوب في النضال السياسي يتبعه المناضلون عندما تضييق عليهم السلطات سبل التعبير عن أرائهم، ابتدعه سعد وسار على خطاه أجيال وأجيال إلى يومنا هذا.
 استهل سعد كلمته قائلًا:
 "أيها السادة، إني أشكر المحاضر على ما قاله من أنه يريد أن يكون لمصر في المستقبل شرع خاص، ولكني أقول لحضرته إن هذا الشرع موجود فعلًا منذ أمد بعيد، إن أمتنا المصرية ليست من قبيل الأقوام الهمج الذين ليست لهم شرائع مقررة، إنما بلد كبلدنا تكون له حياة عريقة في القوانين والشرائع فإن من الخطر أن يعمد إلى تغيير كلي في شرعه بدون أن تدعو الضرورة لذلك أو تهدي إليه التجربة والاختبار، إن قانون العقوبات المصري المأخوذ عن القانون الفرنسي جرى عليه العمل منذ زمن طويل، فهو جزء من محصولنا القانوني تشربته أفئدة قضاتنا ومحامينا، وسرى في أخلاق الأمة سير الدم في الجسد..."
 وانطلق سعد بذكاء شديد من المناقشة القانونية إلى المناقشة السياسية، فانتقد استخدام الجمعية العلمية وسيلة للترويج لقبول الأمة بهذا التشريع وتمريره دون عرضه على الجمعية التشريعية، ثم انتقل إلى مهاجمة القانون لأنه يستند في مواده على حالة الحماية، وقال عن الحماية إنها: "حالة سياسية لا وجود لها الآن بمصر"... واستطرد قائلا: "إن بلادنا لها استقلال ذاتي ضمنته معاهدة 1840، واعترفت به جميع المعاهدات الدولية الأخرى، وعبثًا يحاولون الاعتماد على ما حصل من تغيير هذا النظام السياسي أثناء الحرب، إنكم أيها السادة تعلمون وكل علماء القانون الدولي يقررون أن الحماية لا تنتج إلا من عقد بين أمتين، تطلب أحداهما أن تكون تحت رعاية الأخرى، وتقبل الأخرى تحمل أعباء هذه الحماية، فهي نتيجة عقد ذي طرفين موجب وقابل، ولم يحصل من مصر ولن يحصل منها أصلًا".
 وأكد على أن الحماية التي أعلنتها بريطانيا من جانب واحد في سنة 1914 باطلة لا وجود لها قانونًا، وإنها كانت ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها...
 وقد قضت كلمة سعد على مشروع برونيت تمامًا.
 واستقبلت الكلمة استقبالًا حماسيًا من الحاضرين، وسرعان ما ذاع خبرها وانتشر نصها بين المصريين، وأصبحت حديث الأمة، رغم تجاهل الصحف لها بسبب الرقابة والأحكام العرفية، لدرجة أن جريدة وادي النيل التي كانت تصدر في الإسكندرية أشارت إلى الموضوع في خبر مقتضب بعنوان: "في جمعية الاقتصاد والتشريع" جاء فيه: "ألقى المستر بريسفال المستشار بمحكمة الاستئناف الأهلية بعد ظهر الجمعة الماضية بقية محاضرته الخاصة بالتشريع المصري الجديد في جمعية الاقتصاد والتشريع، وبعد أن انتهى من إلقائه وقف أحد السامعين وبسط بعض ملاحظات ثم انفض الاجتماع".

الدستور 25 فبراير 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق