الأربعاء، 23 أغسطس 2017

بيت الأمة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
بيت الأمة
عماد أبو غازي

بيت الأمة
 بين يوم 13 نوفمبر 1918 يوم المقابلة التاريخية بين سعد وزميليه والسير ونجت ويوم 23 نوفمبر 1918 يوم الإعلان عن تصديق أعضاء الوفد على قانونه كانت مصر كلها تتحرك، لكنها حركة هادئة.
 عندما شعر سعد ببوادر الانقسام بين الوطنيين اتجه لضم عناصر جديدة للوفد المصري، من مجموعة الحزب الوطني ومن القريبين إلى الأمير عمر طوسون، فدخل في مفاوضات مع الحزب الوطني لكنها انتهت إلى الفشل بسبب الخلاف على الأسماء، فتصرف سعد من طرف واحد وقام بضم كل من مصطفى النحاس بك والدكتور حافظ عفيفي بك على اعتبار أنهما يمثلان الحزب الوطني فقد كانا من المعتنقين لمبادئه حسب تعبير الرافعي، وضم عناصر أخرى تمثل عناصر مختلفه من الأمة هم: حمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمود بك أبو النصر وسنيوت حنا بك وجورج خياط بك وواصف غالي بك وحسين واصف باشا وعبد الخالق مدكور باشا.
 كانت الخطوة التالية التي ينبغي أن يتحرك الوفد في اتجاهها هي اكتساب الشرعية لوجوده من خلال الحصول على توكيل من الأمة بتمثيلها، وكانت صيغة التوكيل تقول: "نحن الموقعين على هذا أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارون، في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلًا في استقلال مصر استقلالًا تامًا".
 وكان يفترض أن يوقع على التوكيل أعضاء الهيئات النيابية القائمة وقتها مثل: الجمعية التشريعية ومجالس المديريات والمجالس البلدية، وأكبر عدد ممكن من الساسة والكتاب والمفكرين، ثم أعيان البلاد ومن يتيسر من المواطنين من مختلف الطبقات.
كانت الفكرة عبقرية، وتتبدى عبقريتها في طبيعتها القانونية وقدرتها على حشد الناس في ذات الوقت، فالتوكيل إنابة من الأمة فردًا فردًا للوفد للحديث باسمها في قضية الاستقلال، وحركة جمع التوقيعات على التوكيلات في حد ذاتها دفعت مصر لتتحرك من ثباتها، وكانت فرصة للدعاية للقضية بين الجماهير ولحشدهم خلف زعامة شعبية حقيقية يشعر كل مواطن أنها تمثله فعلًا.
 لكن تلك الصيغة لم تكن هي ما اقترحه أعضاء الوفد في البداية، كانت الصيغة الأولى تقول: "نحن الموقعين على هذا قد أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارون، في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة ـ حيثما وجدوا للسعي سبيلًا ـ في استقلال مصر، تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل، التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب". ولتعديل الصيغة قصة طريفة يرويها عبد الرحمن الرافعي قصة بالتفصيل.
 لما نشرت الصيغة وتم تداولها لاقت اعتراض الجناح الراديكالي في الحركة الوطنية، والذي كان يمثله الحزب الوطني، وقد تركزت الاعتراضات على ثلاث نقاط: النقطة الأولى إغفال صيغة التوكيل للنص صراحة على الاستقلال التام باعتباره هدفًا لسعي حاملي التوكيل عن الأمة، وعدم الإشارة إلى السودان من قريب أو بعيد، حيث كان قطاعًا كبيرًا من الحركة الوطنية يعتبر مصر والسودان بلدًا واحدًا، أما الأمر الثالث الذي أثار الاعتراض فكان العبارة التي تذكر بريطانيا العظمى وتشير إليها باعتبارها تنشر راية الحرية والعدل في الوقت الذي كانت تحتل فيه مصر لأكثر من ستة وثلاثين سنة، وتحمس أربعة من أعضاء الحزب الوطني هم: عبد المقصود متولي ومصطفى الشوربجي ومحمد زكي علي ومحمد عبد المجيد العبد وذهبوا إلى بيت سعد لمناقشته في صيغة التوكيل وإبداء اعتراضهم عليها.
 وقد استقبلهم سعد ودار بينهم حوار حول التوكيل وصيغته، وسرعان ما احتدم النقاش بين سعد وضيوفه، فقد غلبتهم الحماسة الوطنية واحتدوا في لهجتهم على الشيخ في بيته، واعتبر سعد أنهم قد أهانوه فغضب وقال لهم: "كيف تسمحون لأنفسكم بهذه الحدة وكيف تهينوني في منزلي"، فأجابه محمد زكي على الفور قائلًا: "إننا نعتبر أنفسنا في بيت الأمة لا في بيت سعد الخاص".
 فسر سعد من التسمية وراقت له الفكرة، وابتسم لمحدثيه، وقال لهم: "لقد تنازلت عن ملاحظاتي".
 اجتمع أعضاء الوفد عقب انتهاء المقابلة وبحثوا تعديل صيغة التوكيل وانتهوا إلى الصيغة المعروفة التي تم جمع التوقيعات عليها، والتي تتوافق مع رأي رجال الحزب الوطني رغم عدم ذكر السودان فيها، وقد فسر الوفديون عدم ذكر السودان في الصيغة بأنهم يعتبرون أن مصر تعني مصر والسودان معصا.
 وهكذا توحدت الأمة حول صيغة واحدة للتوكيل، بفضل سرعة بديهة محمد زكي ورحابة سعد زغلول.
 ومن يومها أطلق على بيت سعد اسم "بيت الأمة" وصار بيته بيتًا للأمة بحق.

الدستور 17 ديسمبر 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق