الاثنين، 28 أغسطس 2017

الشعب أسير في بلده... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الشعب أسير في بلده...
عماد أبو غازي
"كان الشعب المصري أسيرًا داخل حدوده".
 هكذا وصفت مجلة أوروبا الجديدة حال الشعب المصري عقب الحرب العالمية الأولى، لقد انتهت الحرب لكن الأحكام العرفية ظلت قائمة في البلاد، لم يكن أحد من المصريين يستطيع السفر إلى خارج البلاد إلا بتصريح من السلطة العسكرية البريطانية، حتى لو كان المسافر الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية سعد زغلول، بل أن رئيس الوزراء المصري حسين باشا رشدي كان هو الآخر يحتاج لمثل هذا التصريح، وعندما تقدم هو وعضو حكومته عدلي يكن باشا بطلب للسفر لإنجلترا للتفاوض، ماطلتهما سلطات الاحتلال مثلما ماطلت سعد وصحبه.
 ويقول المؤرخ المصري المعاصر للثورة محمد صبري السوربوني في كتابه: "الثورة المصرية من خلال وثائق حقيقية وصور التقطت أثناء الثورة" واصفًا حال البلاد:
 "إذا كانت إنجلترا قد استطاعت حبس شعب من أربعة عشر مليون نسمة، إلا أنها عجزت عن خنق صرخته التي كانت تعلو، لكنها نجحت في الوصول بإحباطه وآلامه إلى أعلى درجة. لقد أصبحت مصر بإرادة إنجليزية كالإناء المكتوم... أماني مرتعشة، وانفعالات تغلي، وغضب يعتمل.
 وكانت أوروبا تجهل كل هذا، ألم يكن وادي النيل بالنسبة لها غير مستعمرة إنجليزية؟
 كانت وزارة الخارجية البريطانية تعلم ذلك، ولكنها كانت تأمل معالجة المرض بإنكار وجوده. إنها سياسة تبسيطية ذات نتيجة مدمرة".
 وبالفعل كانت مدمرة... مدمرة لخطط بريطانيا في السيطرة على مصر...
 عقب رفض الإنجليز التصريح بسفر الوفد المصري إلى الخارج لعرض القضية المصرية، والمماطلة الواضحة في سفر رئيس الوزراء بدعوى إنشغال وزير الخارجية البريطاني بالاستعدد للسفر لمؤتمر الصلح أخذت الأمور في مصر تسير في مسارات أخرى.

السير وينجت
 بدء سعد زغلول حملة مضادة لمنعه من السفر، فأرسل خطابًا إلى السير ونجت المندوب السامي البريطاني يوم 3 ديسمبر 1918 يسجل فيه احتجاجه وأعضاء الوفد على منعهم من السفر، وأكد في رسالته بشكل واضح على أن الوفد يتحرك في ضوء الوكالة التي منحتها له الأمة مرسيًا مبدأ جديدًا في السياسة المصرية يلتزم فيه المفاوض المصري برأي الشعب الذي أوكل له المفاوضة باسمه، فقال: "...ليس في وسعي، ولا في وسع أي عضو من أعضاء الوفد، أن يعرض اقتراحات لا تكون مطابقة لإرادة الأمة المصرية المعبر عنها في التوكيلات التي أعطيت لنا"... ويرى الدكتور عبد العظيم رمضان في تحليله لخطاب سعد أن هذا الخطاب يؤكد على رفض الوفد المصري للتفاوض على أساس الحماية، ويعتبر الدكتور رمضان أن هذا الرفض "دليل على فساد الرأي القائل بأن الاستقلال الذي كان يطالب به الوفد هو الاستقلال الذي لا يتعارض مع الحماية".
 ولما كانت خطوات الوفد تتم كلها بالتنسيق مع رئيس الوزراء، فقد أرسل سعد رسالة إلى حسين رشدي باشا في اليوم التالي يبلغه فيه بتطورات الأمور ويطلب منه الضغط من أجل سفر الوفد، لكن حسين رشدي نفسه كان ممنوعًا من السفر.

ديفيد لويد جورج
 ولم يكتف سعد بمخاطبة رئيس الوزراء المصري الذي لم يكن يملك من أمر نفسه شيئا مثله مثل سعد، فأرسل في نفس اليوم برقية احتجاج إلى لويد ﭼورﭺ رئيس الوزراء البريطاني، وقال في برقيته: "إن الأمة المصرية بأسرها، من أكبر وزير إلى أصغر فلاح محبوسون داخل حدود بلادهم، ولا يسمح لأحد منهم بالخروج من هذا الحصار الشديد"...
 ثم بدء الوفد اتجاهًا جديدًا بتدويل القضية وإخراجها من الجدل ثنائي الأطراف، الجدل المصري البريطاني، فأرسل الوفد نداء إلى معتمدي الدول الأجنبية لإعلانهم بتأليف الوفد وأهدافه، وبتعنت السلطات العسكرية البريطانية تجاهه، ويختلف المؤرخون حول تاريخ هذا النداء فيذكر عبد الرحمن الرافعي أنه كان في يوم 6 ديسمبر 1918 بينما يشير أحمد شفيق إلى أن النداء صدر يوم 10 يناير 1919، وقد حدد النداء بوضوح مطالب الوفد المصري التي هي في ذات الوقت مطالب الأمة التي وكلت الوفد في الحديث باسمها.
 وركز النداء على مطلبين رئيسيين أولهما الاستقلال التام الذي يعد حقًا طبيعيًا للأمم، وأكد النداء أن مصر لم تهمل قط أمر المطالبة بهذا الاستقلال بل سفكت في سبيله دم أبنائها في ميادين القتال، وقد حاول النداء أن يربط هذا الاستقلال عن بريطانيا بسعي المصريين لتحقيق استقلالهم عن تركيا منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مرسخًا بذلك للمنهج المصري في الحركة الوطنية الذي يخالف منهج الحزب الوطني الذي قام في البداية على مماحكة قانونية تعتمد على السيادة الرسمية للدولة العثمانية على مصر. أما المطلب الثاني فكان الحكومة الدستورية.
 وفي نفس الوقت أكد النداء على تعهد مصر المستقلة الدستورية باحترام امتيازات الأجانب، والتزامها بنظام للمراقبة المالية يتم الاتفاق عليه ويتولى الأشراف على تطبيقه صندوق الدين العام، كما أكد النداء على استعداد مصر لقبول الاحتياطات التي تراها الدول للحفاظ على حياد قناة السويس.
 وانتهى النداء إلى أن مصر "تعتبر نفسها حائزة لأكبر شرف بوضع استقلالها تحت ضمانة جمعية الأمم، تشترك بهذه المثابة بقدر ما لديها من الوسائل في تحقيق مبادئ العدل والحق على النمط الحديث".

الرئيس ويلسن
 وفي نفس الوقت أرسل سعد زغلول برقية إلى الرئيس الأمريكي ويلسن يطلب إليه تحقيق مسعى الوفد في السفر لحضور مؤتمر الصلح في باريس، ليعلن بذلك عن توجه جديد للحركة الوطنية المصرية.

الدستور 4 فبراير 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق