الاثنين، 14 أغسطس 2017

الكاتب والكاهن والقائد... من أرشيف مقالاتي القديمة


مخربشات
الكاتب والكاهن والقائد
عماد أبو غازي
 لقد بهرت إنجازات تحتمس الثالث العسكرية التى سجلها فى عديد من النقوش على لسانه شخصيًا أو على لسان كاتبه المؤرخين المحدثين، وإذا كانت الانتصارات العسكرية فى حد ذاتها ليست عملًا متميزًا، فإن ما ميز تحتمس الثالث هو خططه وتكتيكاته العسكرية ورؤيته الإستراتيجية الثابتة، لقد حدد تحتمس الثالث أهدافه بدقة وعرف كيف يحققها، ووضع الخطط العسكرية الفذة، بمقاييس عصره، التى أربكت العدو الذى يحاربه، ففى موقعة مجدو كان اتخاذه الطريق الوعر غير المتوقع عنصرًا حاسمًا فى نجاحه فى حصار خصومه داخل أسوار مدينتهم، مدينة مجدو، وفى حربه مع ميتان اتبع أسلوبًا مبتكرًا بنقل السفن برًا على عربات حتى شواطئ نهر الفرات ثم قام بمفاجأة الأعداء بهجومه الخاطف، وقد أشار عالم المصريات سليم حسن إلى أن القائد البريطاني الكبير مونتجمري، الذي هزم الألمان بقيادة روميل في العالمين سنة 1942، قد اتبع نفس التكتيك العسكرى بعد تحتمس بثلاثة آلاف سنة فى معاركه العسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية في أوروبا، مستخدمًا أسلوب تحتمس في عبور الفرات عندما قام بعبور نهر الراين.

شاهد الانتصارات 
 ولكن هل غيرت هذه الحروب من طبيعة الفلاح المقاتل المصري، تأمل حوادث التاريخ يكشف عن أن الفلاح صانع الحضارة والنماء ظل يؤمن بالحرب دفاعًا عن الحق لا الحرب من أجل العدوان، وطوال ثلاثة آلاف سنة تقريبًا هي عمر الحضارة المصرية القديمة، نجح الجيش المصري في صد الغزوات الأجنبية غزوة وراء غزوة، وظل الطابع الدفاعي هو الغالب على العقيدة العسكرية المصرية، حتى عندما فكر المصريون في عصر الدولة الحديثة في بناء إمبراطوريتهم في غرب آسيا، كان هذا ردًا على احتلال الهكسوس للبلاد الذي يعتبر من أطول فترات الاحتلال الأجنبي في تاريخنا القديم، والتي ذاق فيها المصريون وطأة الحكم الأجنبي، ومن هنا فالأرجح أن بناء الإمبراطورية المصرية كان لهدف دفاعي بحت لضمان حماية البلاد من الغزوات المتكررة التي تأتي من الشرق. لقد دفعت سنوات حكم الهكسوس لمصر بالمصريين إلى الانطلاق شمالًا وشرقًا لتأمين حدودهم في البداية، ثم لبناء إمبراطورية كبيرة، ويبدو أن الغزوات الناجحة كانت تفتح شهية حكام المصريين للتوسع، فلم تقتصر حملات تحتمس الثالث العسكرية على الشمال والشرق والشمال فقط، بل امتد نشاطه إلى الجنوب، حيث نجح هذا الملك الفاتح فى الوصول بالنفوذ المصرى إلى مناطق قريبة من الشلال الخامس فى النوبة ونصب هناك لوحًا تذكاريًا يخلد غزواته، لقد كان تحتمس الثالث قائدًا عسكريًا فذًا بمقاييس عصره، حقق انتصارات خالدة وأمن حدود مصر الشرقية لقرون عديدة تالية لعصره، كما توسع في الجنوب ووصل بالحكم المصري إلى حدود لم يصلها من قبل.


 لكن كيف تراجعت هذه الإمبراطورية الكبيرة وتقلصت حدودها؟ وكيف عادت مصر محتلة مرة أخرى بعد قرون من حكم تحتمس الثالث؟
 لقد أدى تكوين الأمبراطورية إلى عدة نتائج، فمن ناحية فقد اندمج قطاع من النخب الأسيوية التي تعلمت في مصر في المجتمع المصري، وانتشر الزواج بين الأمراء المصريين والأميرات الأسيويات، ومن ناحية أخرى أنفصل الجيش النظامي الذي شيد تلك الأمبراطورية الكبيرة عن الفلاحين، وأصبح جيشًا طبقيًا محترفًا، ومن ناحية ثالثة تدفقت الثروات على مصر من غنائم الحروب والجبايات التي فرضت على الشعوب المغلوبة، وأصبحت كثير من تلك الثروات جزء من أملاك الإله آمون، فزادت ثروات الكهنة، كما تضخم الجهاز الإداري للدولة بشكل واضح، هذه العوامل الأربعة أدت إلى تأكل الإمبراطورية بعد عدة قرون.
جدارية تكشف حجم الموظفين مقارنة بالعاملين

 جاءت الضربة الأولى على يد أمنحوتب الرابع الذي سمى نفسه إخناتون، وحاول فرض هيمنة عقيدة واحدة على المجتمع المصري، العقيدة الأتونية، فغرقت مصر في صراعات داخلية، انتهت بنهاية عصره، وفقدت مصر خلالها كثير من نفوذها الخارجي وقوتها.

اخناتون
 لكن الفوضى التي أتى بها إخناتون وأعقبت عصره سرعان ما انتهت على أيدي العسكريين الذين تحالفوا مع كهنة آمون، وقاد القائد العسكري حور محب انقلابًا تدريجيًا هادئًا أسس به لعهد جديد عادت للإمبراطورية فيه بعض أمجادها.

حور محب
 ولم يورث حور محب الحكم لإحد من أسرته، بل لزميل من زملائه العسكريين، هو وزيره رمسيس الذي عرف باسم رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشر، الذي حكم لعامين أشرك فيهما ابنه سيتي الأول في الحكم.

رمسيس الأول
 وقد سار سيتي على نهج أبيه فأشرك ابنه الذي أصبح أشهر فراعنة مصر، رمسيس الثاني معه في حكم البلاد، ودخل رمسيس الثاني في حروب متعددة مع الحثيين استعاد خلالها أجزاء من الإمبراطورية المصرية في غرب آسيا، لكن ظهور خطر الآشوريين دفع المصريين والحثيين إلى توقيع معاهدة سلام، ربما تكون أقدم معاهدة وصلت إلينا.

رمسيس الثاني
 تجاوز حكم رمسيس الثاني الستين عامًا، ترهلت الدولة خلالها وفقدت مصر إمبراطوريتها تدريجيًا مرة أخرى، ورغم أن محاولات الإصلاح واستعادة الإمبراطورية قد تكررت خلال حكم الأسرتين 19 و20 إلا أن أمورًا كثيرة كانت تغيرت، فقد اتسعت الفجوة بين الفلاحين الذين صنعوا الحضارة وحرروا الأرض وشيدوا الإمبراطورية الأولى والطبقة الحاكمة وعلى رأسها الفرعون، تلك الطبقة التي أصبحت خليطًا من العسكريين المحترفيين والكهنة والكتبة البيروقراطيين، لقد قتل هذا التحالف البغيض بين القائد والكاهن وتابعهما الموظف روح الشعب، وازداد الاعتماد على الأجانب في الجيش والإدارة، فضاعت مصر عندما غاب الفلاح صانع الحضارة وصانع النصر.
 لكن للقصة بقية...

الدستور 22 أكتوبر 2008 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق