الأربعاء، 16 أغسطس 2017

دول ولاد الفلاحين... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات

دول ولاد الفلاحين
عماد أبو غازي



 كان الاحتلال الفارسي لمصر سنة 526 ق.م. إيذانًا بمرحلة جديدة من التاريخ المصري ما زالت آثارها قائمة إلى الآن، فبعد أن كانت مصر منذ فجر تاريخها تسير في حركة صعود مستمر تتخللها كبوات قصيرة، أصبحت تعيش في كبوة مستمرة تتخللها لحظات نهوض قصيرة، وكان الفارق المميز بين المرحلتين، تحول مصر إلى ولاية تابعة لإمبراطورية كبرى، أو كيان مستقل تحكمه أسرة أجنبية، وفي كلتا الحالتين غاب الفلاح المحارب، أو بمعنى أدق غُيب بالقوة فيما عدا لحظات خاصة في تاريخ طويل.
 رغم أن الاسكندر الأكبر حاول أن يربط نفسه بالمصريين من خلال إدعاء انتسابه إلى آمون وإدعاء أنه ابن له، فقد أقام خلفاء الاسكندر من البطالمة دولة مركزها الإسكندرية، يسود فيها المقدونيون ويسيطرون على مقدرات البلاد، ويستنزف في ظلها المصريون ويتعرضون للاستغلال.

الإسكندر الأكبر
 لكن، لم يرضخ المصريون لحكم البطالمة، وظهرت نذر المقاومة الشعبية في عصر بطليموس الأول في أشكال من المقاومة السلبية، ولكن المقاومة الصريحة بدأت في عصر بطليموس الثاني فيلادلفيوس، حيث تذكر الوثائق البردية الكثير عن القلاقل والاضطرابات التي أثارها الفلاحون، وربما شهد عصر بطليموس الثالث يورجيتس أول ثورة قومية شاملة ضد حكم البطالمة شملت البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وفي عامي 207 و206 قبل الميلاد تجددت الثورة مرة أخرى حيث بدأت من الدلتا ثم امتدت إلى مصر العليا، وتتحدث البرديات عن أن الثوار حطموا ممتلكات الأجانب ومنازل المصريين المتعاونين مع البطالمة، وفي ظل هذه الثورة نجح بعض ملوك النوبة والتي كانت دائمًا المعقل الأخير للدفاع عن مصر في تحرير طيبة من حكم البطالمة، وأثناء هذه الثورة ظهرت نبوءة صانع الفخار التي تتحدث عن أن مصريًا وطنيًا سوف يحكم البلاد ويحررها من مغتصبيها الأجانب ويعيد العاصمة إلى منف كما كانت أيام الفراعنة الأقدمين.
يورجيتس
 وتظل حركات المقاومة الشعبية حتى قبيل انهيار دولة البطالمة بسنوات قليلة ففي ثمانينيات القرن الأول قبل الميلاد اشتعلت الثورة مرة أخرى في جنوب الوادي، وكان لكهنة آمون دور كبير في هذه الثورة الجامحة، والتقى الثوار بالجيش الملكي، الشعب بأسلحة صغيرة أمام جيش منظم يحمل أفراده سلاحًا قويًا، ومع ذلك استمرت المعارك ثلاثة أعوام كاملة ولم تنته إلا بعد أن دمر الملك طيبة، معقل الثورة، تدميرًا كاملًا.
 ومما ساعد على قيام الثورات إحساس المصريين بقدرتهم العسكرية مرة أخرى، فقد قامت سياسة البطالمة في بداية حكمهم على منع المصريين من حمل السلاح أو الانخراط في الجيش، وأبعدوا المصريين تمامًا عن أمور الحرب والقتال، واعتمدوا على قواتهم المقدونية الوافدة معهم. لكن السنوات تمضي، وتتوالى هزائم جيوش البطالمة أمام الأعداء الخارجيين فيضطروا إلى تجنيد المصريين فى الجيش البطلمي.
 وكانت موقعة رفح سنة 217 قبل الميلاد التي التقى فيها جيش البطالمة وفي قلبه فيلق من المصريين بجيش السلوقيين ـ ورثة الاسكندر فى سوريا ـ نقطة فاصلة فى تاريخ العسكرية المصرية؛ ففى ذلك العام زحف أنطيوخوس الثالث الملك السلوقي حتى تخطى رفح والتقى هناك بالجيش البطلمي الجديد الذي كان يقوده بطليموس الرابع فيلوباتور، ولم يستطع جيش أنطيوخوس الذي كان يتألف من خيرة جنود عصره أن يصمد أمام قلب جيش بطليموس وكان قوامه الأساسي من المصريين الذين حرموا من القتال لقرون طويلة، فأثبتوا بمجرد أن أتيحت لهم فرصة المواجهة أنهم جيش مقاتل لا يهاب الموت ويملك صلابة لا تبارى.
 إنه نفس الأمر الذي تكرر عندما ذاق طومان باي الهزيمة على يد العثمانيين وتجسدت أمامه صورة إنهيار الدولة، فسلح الشعب الذي حرم من حمل السلاح طوال عصور الرومان والبيزنطيين والعرب والترك والجراكسة، فحرر المصريون القاهرة من العثمانيين لعدة أيام، وأعادوا الخطبة باسم السلطان طومان باي، لكن مدافع سليم كانت أقوى من سيوفهم ورماحهم.



 وفي مطلع العصر الحديث، عاد المصري مرة أخرى بعد 1900 سنة ليثبت كفاءته العسكرية، فيتصدى للفرنسيين بقيادة بونابرت ثم للإنجليز بقيادة فريزر، وعندما جند محمد على أبناء الفلاحين المصريين وخاض بهم إبراهيم باشا غمار حروب طويلة، وصلوا إلى أبواب أوروبا، وهددوا اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، وحققوا انتصارات سجلت في تاريخ العسكرية المصرية، ومن يومها لم يترك الفلاح المصري السلاح حتى لو كان ذاهبًا إلى "الجهادية" مرغمًا.

ثورة القاهرة الأولى
 ومثلما خلد التاريخ انتصارات المصريين على الرعاة الأسيويين والهكسوس والأشوريين والسلوقيين وسجل معاركهم البطولية فى القرن التاسع عشر، فقد سجل كذلك دفاعه عن أرضه ووطنه فى أكتوبر 1973، الذي مر عليه هذا العام 35 سنة.


 وهذه شهادت قادة العدو عن المقاتل المصري، قال الجنرال ديفيد أليعازر: "إن أكبر مفاجآت حرب أكتوبر كانت روح الجندي المصري العالية وكفاءته".
 وقال الجنرال جونين: "كان الجندي المصري يتقدم في موجات، وكنا نطلق النار وهو يتقدم، ونحيل ما حوله إلى جحيم، ورغم ذلك يظل يتقدم".
 وقال الخبير العسكري زيف شيف:"كنا نعتقد أن الدبابة تسحق المشاة وقد أدهشنا أن يقوم المصريون بالهجوم على الدبابات وهم مشاة كانت لدى جنود المشاه المصريين الشجاعة لمواجهة المدرعات الإسرائيلية وإطلاق الصواريخ عليها."
 وعلقت صحيفة الديلي إكسبريس على الحرب بقولها: "إن المحاربين المصريين الذين أذهلوا الإسرائيليين بحماسهم القتالي الذي يصل إلى حد الانتحار يشكل نوعًا جديدًا من الجنود وهذا هو أهم ما ظهر في الحرب، إن سلاح مصر السري كان الجندي المثقف الواعي الذي يحارب ويكسب أعنف المعارك في تاريخ حروب الصحراء".
 أما الأوبزرفر فقالت: "لقد انتزع جيل جديد من الضباط المصريين احترام العالم، هم مجموعة من الشباب الهادئ المثقف جدًا والمحترف الذي يتمتع بالثقة الكاملة من رجاله، منهم القادة ومنهم المخططون العسكريون، هم رجال غير معروفين ولكنهم كانوا يعرفون جيدًا ماذا يريدون ويقومون بمهامهم في تصميم".
 دول ولاد الفلاحين كما أجاب أحمد فؤاد نجم في قصيدته عن حرب أكتوبر "دولا مين؟"
 ودول الفلاحين اللي "بيغيروا الكتان بالكاكي"، كما وصفهم زين العابدين فؤاد الذي كان وقتها جندي مجند بالقوات المسلحة المصرية، مثله مثل عشرات الآلاف من خريجي المدارس والجامعات ومن الفلاحين والعمال الذين التحقوا بالجيش مجندين بعد هزيمة 67 ولم يغادروه إلا بعد حرب أكتوبر 73.
الدستور 5 نوفمبر 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق