الخميس، 31 أغسطس 2017

كرة الثلج... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
كرة الثلج
عماد أبو غازي
 كان الإنجليز يتصورن أن نفي سعد سيمر مثلما مرت تدخلاتهم السابقة، لقد عزل إسماعيل ونفي، ونفي أحمد عرابي ورفاقه بعد محاكمة سياسية، واختار محمد فريد الابتعاد عن الوطن تحاشيًا للاعتقال والسجن، وعزل الخديوي عباس حلمي الثاني ومنع من العودة إلى مصر، وفي كل هذه الحالات لم تشهد مصر احتجاجًا أو اعتراضًا له قيمة أو تأثير، لكن الحال هذه المرة كان مختلفًا، فإسماعيل وعباس حاكمين لا يهتم الشعب كثيرًا بأمر عزلهما أو نفيهما، وعرابي نفي بعد معركة خرج منها الشعب المصري مهزومًا ومنكسرًا فاقدًا لطاقة المقاومة لسنوات، أما محمد فريد فرغم حركة البعث الوطني التي بدأت مع بدايات القرن العشرين بقيادة مصطفى كامل، إلا أن تلك الحركة كانت محصورة إلى حد كبير في إطار النخبة السياسية وطلاب المدارس العليا.


 لكن الأمر كان مختلفًا تلك المرة، ففضلًا عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها مصر خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، كان الوفد المصري قد نجح في حشد الشعب كله حول قضية الاستقلال من خلال حملة جمع التوقيعات على التوكيلات، لذلك عندما صحت مصر يوم 9 مارس على خبر نفي سعد زغلول ورفاقه إلى مالطة هبت ثائرة، ويروي عبد الرحمن الرافعي الذي كان معاصرًا للأحداث القصة في كتابه عن الثورة "ثورة 1919"، فيقول:
 "بدأت الثورة بمظاهرات سلمية ألفها الطلبة يوم الأحد 9 مارس، إذ أضربوا عن تلقي الدروس، وخرجوا من مدارسهم، وساروا بادئ الأمر في نظام وسكينة، تتقدمهم أعلامهم وهم يهتفون بحياة مصر والوفد المصري وسعد، وسقوط الحماية الإنجليزية.
 كان طلبة مدرسة الحقوق أول المضربين، فقد امتنعوا عن تلقي الدروس منذ صبيحة هذا اليوم، واجتمعوا في فناء المدرسة بالجيزة، يعلنون إضرابهم، فنصحهم المستر والتون ناظر المدرسة بالعدول عن الإضراب، وكان يخاطبهم بلطف فلم يستمعوا لنصيحته، فاستدعى المستر موريس شلدون إيموس، نائب المستشار القضائي البريطاني لوزارة الحقانية، فجاء على عجل، وكرر عليهم النصح بالعودة إلى دروسهم، ودعلهم إلى ترك السياسة لأبائهم، فأجابوه إن آباءنا قد سجنوا، ولا ندرس القانون في بلد يداس فيه القانون."

 خرج طلاب مدرسة الحقوق إلى الشارع متظاهرين وانضم إليهم طلاب المهندسخانة والزراعة، ثم عبروا النيل وتوجهوا إلى مدرسة الطب بقصر العيني، فانضموا لهم، وذهب الجميع إلى مدرسة التجارة العليا بالمبتديان (التي يشغل مكانها الآن معهد التعاون) واتجهت المظاهرة الضخمة إلى ميدان السيدة زينب، فانضم إليها أثناء سيرهم طلاب دار الغلوم والتجارة المتوسطة ومدرسة القضاء الشرعي، كما انخرط في المظاهرات بعض طلاب المدارس الثانوية.  واشتبك المتظاهرون مع قوات البوليس التي كان يقودها الحكمدار الإنجليزي رسل، وانتهى اليوم بإلقاء القبض على 300 متظاهر أودعوا في قسم السيدة زينب، ومنه تم ترحيلهم إلى باب الخلق، ثم إلى القلعة ليلًا. ولم يسقط في هذا اليوم شهداء.
 في اليوم التالي امتدت الإضرابات والمظاهرات إلى الأزهر وباقي المدارس العليا والثانوية، وانضمت جموع الشعب إلى المظاهرات، وشهد اليوم الثاني للثورة إطلاق النار من جانب القوات البريطانية على المتظاهرين في منطقة الدواوين، وقد اختلفت الروايات التاريخية حول اليوم الذي سقط فيه أول شهيد مصري، لكن المؤرخ المدقق عبد الرحمن الرافعي بحسه القانوني سعى إلى تحقيق الوقائع، فراجع دفتر الوفيات بقسم السيدة زينب، وتيقن من تسجيل استشهاد "مصري مجهول"، كما راجع دفاتر مستشفى قصر العيني فوجد مسجلًا بها وفاة "غلام مجهول" يوم 10 مارس أيضًا، ومسجل أمام كل منهما أنه أصيب في مظاهرة.
 وقد شهد اليوم الثاني بعض أعمال تحطيم عربات الترام وواجهات بعض المحلات التي يملكها الأجانب، فأصدر طلاب المدارس العليا نداء إلى الشعب المصري يناشدونه فيه التوقف عن تحطيم المرافق العامة وعدم الاعتداء على ممتلكات الأجانب.
 كما أصدروا بيانا موجهًا للأجانب المقيمين في مصر يعتذرون فيه عما حدث، جاء فيه:
 "إلى حضرات إخواننا ومواطنينا الأجانب، قد تأسفنا نحن معاشر الطلبة المصريين مما وقع من الغوغاء عند قيامنا بمظاهراتنا السلمية التي ما قصدنا بها، إلا إظهار عواطفنا وشعورنا مع محبتنا لمواطنينا الأجانب الأعزاء، وهكذا فلنكن أحباء كما عشنا مدى الأزمان".
 في اليوم الثالث اتسعت الثورة، وأضرب سائقو الترام وسائقو الأجرة، فشلت حركة المواصلات في القاهرة، وأقفل معظم التجار محلاتهم، كذلك أغلقت البنوك والبيوت المالية أبوابها خوفًا من تكرار حوادث التعدي على المحال الأجنبية واتساعها.
 أما القيادة البريطانية فبادرت إلى إصدار إنذار شديد اللهجة للمواطنيين تذكرهم فيه بأن الأحكام العرفية ما زالت مفروضة في البلاد، وأن المحاكمات العاجلة تنتظر المتظاهرين والمتجمهرين.
 لكن الثورة كانت قد بدأت تتحرك، وكانت ككرة الثلج التي تكبر كلما تحركت.
الدستور مارس 2009


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق