الثلاثاء، 8 أغسطس 2017

الفلاح المحارب... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الفلاح المحارب
عماد أبو غازي
 من 35 سنة في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر 1973، أصدر الرئيس السادات قرارات بإلإفراج عن من تبقى من الطلاب المعتقلين بعد مظاهرات يناير 1973، كما أعاد الصحفيين المبعدين إلى أعمالهم بعد أن ألغى قرارات لجنة التنظيم بالاتحاد الاشتراكي العربي بفصلهم، الفصل الذي ترتب عليه إبعادهم من عملهم الصحفي وفقًا لقوانين ذلك العصر، كان التصور وقتها أن تلك القرارات صدرت تحسبًا لافتتاح الجامعة الذي كان موعده قد اقترب طلبًا لعام دراسي هادئ، لكن الأيام التالية كشفت عن أن حقيقة الأمر أن القرارات صدرت لضمان وحدة الجبهة الداخلية في الأيام الأخيرة السابقة على الحرب التي طال انتظارها.
 بعد أيام قليلة من القرار إنطلقت الشرارة الأولى لحرب أكتوبر 1973 ليحقق الجيش المصري الذي أعيد تكوينه على أسس جديدة بعد هزيمة يونيو 1967، الجيش الذي ضم عشرات الآلاف من المجندين من خريجي الجامعات المصرية.


 بعد سبع سنوات من الانتظار والغليان المكتوم، بعد أن كاد الناس يصلون إلى حد اليأس بسبب استطالة حالة اللا سلم واللا حرب، بدأ العبور، كان الأمر مفاجاءة، لكن المتأمل لتاريخ هذا البلد لابد أن يدرك أن ما حدث في يوم السبت 6 أكتوبر سنة 1973 لم يكن بمستغرب، فأبناء الجيش المصري الذي عبر القناة واجتاح خط بارليف الحصين، هم أنفسهم حفدة المقاتلين المصريين الذين صدوا الغزاة طوال تاريخ مصر الألفي الطويل، حفدة الفلاح المصري المقاتل الذي ينفي تاريخه أكذوبة خنوعه وخضوعه لكل غاصب محتل.
 إن الجميع يعرفون قصة الفلاح الفصيح وشكاواه الشهيرة التي استنجد فيها بالفرعون ليرفع عنه ظلم موظفيه ورجاله، تلك القصة التي تعتبر واحدة من روائع الأدب السياسي في مصر القديمة، لكن من يعرف قصة الفلاح المحارب؟
 إنها قصة ممتدة عبر التاريخ، قصة كفاح المصري من أجل الدفاع عن وطنه، أنها تاريخ العسكرية المصرية الطويل الممتد بطول تاريخ هذا الوطن...
فرغم أن الشعب المصري مسالم لا يبدأ بالعدوان أبدًا، ورغم أنه لم يبن دولته القديمة على أسس من التوسع والاستعمار للبلدان المجاورة، إلا أن العدوان المستمر للجيران ـ خاصة البدو الأسيويين ـ كان يحفز المصريين دائمًا للدفاع عن وطنهم وترابهم وحدودهم...
فقد أثبت أبناء النيل في كل المرات التي تعرضت بلادهم فيها لعدوان الغزاة أنهم أهل لحماية أرضهم وصد الغزاة عنها، فرغم كراهية المصري للقتل والقتال إلا أنه لا يتهاون أبدًا مع من يتعدى على أرضه.
إن درس التاريخ الممتد لأكثر من خمسة ألاف سنة يؤكد دائمًا أن المصري ذلك الفلاح المسالم الوديع الذي يكرس حياته كلها لبناء الحضارة، ليهب الحياة لا ليسلبها، يتحول إلى مقاتل شرس شجاع إذا تعرض الوطن للخطر، ويترك المحراث والفاس ليحمل السلاح ويصبح جنديًا من الطراز الأول، إن إطلالة سريعة عبر عصور التاريخ المصري تؤكد أن التاريخ الطويل للحضارة المصرية هو تاريخ ممتد من مقاومة الغزاة الذين توالوا على البلاد.
 فمنذ الألف الثالث قبل الميلاد كانت مصر عرضه لغارات متوالية من سكان المناطق الغربية من آسيا، وكانت هذه الغارات تأخذ عادة شكل الهجمات الخاطفة التي تهدف إلى السلب والنهب في الدلتا.
 وتشير النصوص التاريخية القديمة إلى أن جسر أو زوسر صاحب هرم سقارة المدرج قد بذل جهودًا ضخمة لحماية البلاد من تلك الغارات...
 زوسر
 وطوال عصر الدولة القديمة كانت مسؤلية الدفاع عن الوطن ملقاة على عاتق جيش يحمى البلاد من الأخطار الخارجية، لقد كان للمصريين القدماء جيش قوامه من فلاحى مصر يدافع عن حدود الوطن من الشرق والغرب والجنوب، وربما كانت أولى الغزوات الخارجية التي يسجلها التاريخ هي تلك التي وقعت في عصر الأسرة السادسة، حوالي سنة 2450 قبل الميلاد، عندما تعرضت مصر لهجوم كاسح ومباغت من الحدود الشرقية قامت به جماعات من البدو من غرب آسيا، واستقرت تلك الجماعات في أرض الدلتا بقوة السلاح.
 وإذا كان المؤرخون لم يعرفوا أصل تلك الجماعات على وجه التحديد، لكن ما نعرفه بشكل مؤكد هو أن مصر هبت كلها للدفاع عن أرضها، فحتى ذلك الوقت كان الطابع الأساسي لمقاومة المصريين هو طابع القتال من خلال الجيوش النظامية الصغيرة لكن يبدو أن شدة الاجتياح الأسيوي في هذه المرة قد استدعت تجنيد جيش كبير يفوق في عدده الجيش النظامي، فتم تجنيد الآلاف من مختلف أنحاء البلاد وتدريبهم بسرعة، وقد نجح هذا الجيش في طرد الغزاة.
 وقد خلد قائد الجيش المصري الذي تصدى للغزاة ودحرهم هذا الدفاع المجيد في نقش على جدران مقبرته، سجل منه كيف تكون هذا الجيش من جموع المصريين من الوجهين القبلي والبحري وأهالي النوبة والصحراء الغربية...
 وخرج هذا الجيش الجبار ليلًا ليدفع الغزاة عند الحدود الشرقية لدلتا النيل، فهزمهم شر هزيمة وأنزل بهم خسائر فادحة، ولم يكتف بصدهم عن البلاد بل طاردهم إلى ما وراء الحدود...
وقد سجل القائد المصري "أوني" هذا الانتصار في أنشودة كان الجنود يتغنون بها جاء فيها:
        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
        بعد أن فارق بلاد سكان الرمال
        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
        بعد أن خرب بلاد سكان الرمال
        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
        بعد أن دمر حصون الأعداء
        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالما
        بعد أن أقتلع تينهم وكرومهم
        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
        بعد أن ألقى النار بين جنودهم
        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالمًا
        بعد أن قتل عشرات الآلاف من الجنود
        هذا الجيش عاد إلى وطنه سالما
        بعد أن أحضر معه آلافًا من الأسرى
لقد كان الغزو الخارجي الذي تعرضت له مصر عند نهاية الدولة القديمة دافعًا للانتباه الدائم للأخطار الخارجية، وللعمل على تكوين جيش محترف قوي يذود عن البلاد في وقت الخطر...
وللتاريخ بقية...
الدستور أول أكتوبر 2008


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق