السبت، 12 أغسطس 2017

الفلاح المصري يشيد إمبراطوريته... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الفلاح المصري يشيد إمبراطوريته
عماد أبو غازي
 فى أوائل القرن الخامس عشر قبل الميلاد أنتقل حكم مصر إلى بيت جديد ينتمي إلى الأسرة الثامنة عشرة وإن كان علماء المصريات لم يعرفوا بعد أصل مؤسسها تحتمس الأول ولا كيفية انتقال العرش إليه، وقد نجح تحتمس الأول وأبناؤه وأحفاده فى تأسيس أكبر إمبراطورية مصرية عرفها التاريخ، فوصلت حدود مصر الجنوبية فى عصره إلى الشلال الثالث، ووصلت فتوحاته فى سوريا إلى أعالى الفرات.


ومنذ ذلك الحين أصبحت أقاليم غرب آسيا هدفا صريحًا للسيطرة المصرية، وجعل تحتمس الأول مدينة منف العاصمة القديمة للبلاد نقطة انطلاق لجيوشه المتجهة نحو الشرق والشمال.

تحتمس الأول
 وإذا كان تحتمس الأول قد وضع أسس الإمبراطورية المصرية، فإن حفيده تحتمس الثالث قد أكمل هذا المشروع وترك لخلفائه دولة واسعة مترامية الأطراف يهابها الجميع.
وكان تحتمس الثالث ابنًا للملك تحتمس الثانى أنجبه من زوجته الثانية أيزيت، وقد تم اختياره عن طريق كهنة آمون ليخلف أباه الذي لم يحكم سوى ثلاث سنوات، وكان تحتمس الثالث طفلًا صغيرًا عندما تولى الحكم فأصبحت عمته حتشبسوت وصية على العرش، ثم شريكة له فى الحكم. ولم ينفرد تحتمس الثالث بالسلطة إلا بعد وفاة حتشبسوت في العام الثاني والعشرين من حكمه الذي امتد لمدة ثلاثة وخمسين عامًا.
وفى أواخر أيام حكم تحتمس الثالث أشرك معه فى الحكم أبنه أمنحتب الثاني الذي خلفه فى حكم الإمبراطورية الواسعة مترامية الأطراف التي شيدها لمصر، وامتدت شمالًا وشرقًا وجنوبًا.
 وإذا كان التوسع الخارجي أمرًا غريبًا على السياسة المصرية، فإن تكرار الغزوات التي قام بها الآسيويون على البلاد دفعت حكام مصر دفعًا إلى التوسع من أجل تأمين الاستقرار وتأديب الأعداء، فقد أصبح ملوك مصر ومخططو سياستها على قناعة تامة بأن حماية حدود مصر الشرقية لن تتحقق إلا بضم المناطق التى ينطلق منها الغزاة وإخضاعها للسيادة المصرية.


تحتمس الثالث
 لقد شن تحتمس الثالث قرابة خمس عشرة حملة عسكرية فى سوريا وفلسطين لدحر خصوم مصر فى تلك البلاد وللقضاء على الحكام المناوئين للسياسة المصرية، فقام تحتمس الثالث بحملته الأولى للقضاء على تحالف بعض الأمراء السوريين مع أمير مدينة قادش التى تقع عند منفذ سهل البقاع، وفى العام الثالث والعشرين من حكمه استطاع الملك العظيم أن يصل إلى إحدى المدن عن طريق أحد الطرق الوعرة، وكانت مفاجأة أدت إلى إرباك خصومه الذين أنتظروه فى الطريق المعتاد للمدينة، وحاصر تحتمس الثالث المدينة سبعة أشهر انتهت باستسلامها وسقوط التحالف المعادى لمصر، لكن حروب الملك الشاب لم تنته فى سوريا،  لقد ظهر خضم جديد وقف أمام الطموحات المصرية، هو الأمير تونب، الذى لم يتوقف عن مناوأة مصر إلا بعد أن تلقى عدة هزائم على يد جيوش تحتمس الثالث.
 إلا أن أكثر خصوم مصر خطورة كانت دولة ميتانى فى شمال الفرات والتي كانت تحكمها أرستقراطية عسكرية ذات أصول هندوأوروبية، وقد أصبحت حدود مصر متاخمة لدولة ميتاني بعد توسع تحتمس الثالث وأسلافه فى فلسطين وسوريا، فبدأ الصدام بين الدولتين.
أتبع تحتمس الثالث تكتيكًا عسكريًا جديدًا فى حربه مع الميتانيين ليقهر المانع المائي الذي احتمى خلفه الأعداء أعني نهر الفرات، لقد نقل تحتمس الثالث سفن جيشه فوق العربات من سواحل لبنان إلى الشاطئ الغربي لنهر الفرات، ليعبر به النهر ويفاجئ المينانيين ويهزمهم، وقد خلد التاريخ هذا النصر فى نص يقول على لسان تحتمس الثالث:
"الآن سار جلالتي إلى شمال حدود بلاد آسيا، وقد أمرت ببناء سفن نقل من خشب الأرز فى جبيل، مما تنبته تلالها، وهى أرض الإله الواقعة على مقربة من صيدا، وقد أرسلت قبل جلالتى لتستعمل فى عبور ذلك النهر العظيم، الذي يجري في هذه الأرض الأجنبية..."
 وفي نص آخر يشرح الكاتب الذي يسجل معارك تحتمس بعض تفاصيل تلك المعركة فيقول:
"سار جلالته إلى بلاد نهرين فى مقدمة جيشه شرقى هذا النهر، وأقام لوحة أخرى بجوار اللوحة التى نصبها والده ملك الوجه القبلى والوجه البحرى، إن جلالته سار شمالا متغلبا على البلاد، ومخرا إقليم نهرين التابع للعدو الخاسئ..
وبعد ذلك انحدر شمالًا مقتفيًا أثرهم لمسافة، فلم يلتفت واحد منهم خلفه، ولكنهم أرخوا لسيطرتهم العنان كأنهم قطيع بقر الوحش... تأمل، إن خيلهم هربت، وغنم جيش جلالته ثلاثة أمراء ونساؤهم وعددهن ثلاثون، كما أخذ ثمانين أسيرًا، ومن العبيد والإماء ستمائة وستة، ومعهم أولادهم، أما الذين سلموا خاضعين ومعهم زوجاتهم وأولادهم فكثيرون"....
 ورغم تمتع المدن السورية والفلسطينية بدرجة من درجات الاستقلال، إلا أن فرق حربية مصرية تمركزت في المواقع الاستراتيجية لضمان التحكم في البلاد، واضطرت المدن الممتدة من أقاليم الفرات العليا حتى حدود مصر الجغرافية إلى دفع الجزية بشكل منتظم لمصر، ونتج عن هذه السياسة الإمبراطورية تدفق الثروات على البلاد، مرة فى شكل غنائم حرب ومرات فى شكل جبايات منتظمة وضرائب.
ومن ناحية أخرى شيدت المعابد للآلهة المصرية فى مواقع متعددة بسوريا وفلسطين كتأكيد رمزي للسيادة المصرية، كما تم إرسال أبناء الحكام المحليين في سوريا وفلسطين إلى مصر كرهائن، حيث كانوا يتلقون تعليمًا متميزًا داخل البلاط الملكي المصري، قبل أن يرجعوا إلى بلادهم متمصرين ليخلفوا أبائهم في الحكم...
وبهذه السياسة نجحت مصر في السيطرة الفكرية والحضارية على تلك المناطق حتى بعد أن زال نفوذها العسكري.
الدستور 15 أكتوبر 2008 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق