الجمعة، 4 أغسطس 2017

ست الاف متين وخمسين... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
ست الاف متين وخمسين...
عماد أبو غازي


  قررت أن أرجأ المقال الأخير في سلسلة مقالاتي عن مصطفى النحاس إلى الأسبوع القادم، لأن بكره الخميس 11 سبتمبر يوافق أول توت، رأس السنة لسنة 6250 مصرية، والتقويم المصري ربما يكون أقدم تقويم ابتكره الإنسان على وجه الأرض، من ستة آلاف ومائتين وخمسين سنة اكتشف المصري القديم دورة النجم سبدت، أو الشعرى اليمانية كما يسمى في العربية، أكثر نجوم السماء لمعانا، وعلاقة هذه الدورة بموعد اكتمال فيضان النيل، فوضع تقويمه الذي نظم به مواعيد الزراعة والحصاد، وقسم السنة إلى اثنى عشر شهرا متساوية، كل شهر مكون من ثلاثين يوما، وجعل السنة أربعة فصول كل فصل مكون من أربعة أشهر، أربعة للفيضان وأربعة للزراعة وأربعة للحصاد، وعندما اكتشف المصري القديم أن السنة الطبيعية تزيد عن 360 يوما، أضافوا الشهر الصغير المكون من خمسة أيام والذي يأتي في نهاية السنة وجعلوها موسما للإحتفالات والأعياد، وفي مرحلة لاحقة أدخل المصريون تصحيحا جديدا على تقويمهم عندما اكتشفوا أن السنة تتكون من 365 يوما وربع يوم فأبتكروا فكرة السنة الكبيسة التي تأتي مرة كل أربع سنوات، فجعلوا شهر نسيء أو الشهر الصغير ستة أيام كل أربع سنوات.
 وقد استمر الفلاح المصري منذ أكثر من ستة آلاف سنة يستخدم هذا التقويم في الزراعة، كما كان هذا التقويم أساسًا للجباية الضريبية حتى القرن التاسع عشر عندما استخدمت مصر التقويم الميلادي، وكانت الكنيسة المصرية، كنيسة الأقباط الأرثوذوكس، قد اتخذت التقويم المصري القديم تقويمًا معتمدًا يحمل اسم تقويم الشهداء، إشارة إلى عصر الشهداء المصريين المسيحيين الذين استشهدوا دفاعًا عن عقيدتهم الدينية في عصر الإمبراطور الروماني دقلديانوس والذي يعرف كعصر من عصور الاضطهاد الديني، وأصبح هذا العصر بداية للتقويم الذي نحتفل غدا ببداية العام 1725 من سنواته.
 وتعرف شهور السنة المصرية القديمة الآن بمسمياتها في اللغة القبطية التي تشكل مرحلة من مراحل لغتنا المصرية، ولاسم كل شهر من هذه الشهور قصة، كما يرتبط بكل منها مثل شعبي أو مجموعة من الأمثال، مازال الفلاح المصري يستخدمها إلى الآن، فتبدأ بشهر توت وأصل اسمه مأخوذ من الإله تحوتي إله الحكمة ورب القلم ومقسم الزمن عند المصريين القدماء، ومن الأمثال المرتبطة به: "توت ري ولاَ فوت"، لأن هذا الشهر يرتبط بالري بعد الفيضان، ويقال أيضا "رطب توت" لأن البلح ينضج في هذا الشهر، أما الشهر الثاني فشهر بابه، وهناك وجهات نظر عدة حول نسبة الشهر عند المصريين القدماء، فقد يرجع أصله إلى المعبود بتاح، أو إلى إله الزرع بي نت رت، ومن الأمثال المرتبطة بهذا الشهر: "إن صح زرع بابه غلب القوم النهابة ... وإن هاف زرع بابه ما يبقاش فيه ولا لبابه"، ويقال أيضا: "بابه خش واقفل الدرابة"، والشهر الثالث شهر هاتور وينسب إلى ربة الحب والجمال حاتحور، وفيه تبذر بذور القمح، لذلك يقال فيه: "هاتور أبو الدهب منتور" و"إن فاتك زرع هاتور أصبر لما السنة تدور"، ومن الثمار المرتبطة به الموز، فيقال "موز هاتور"، أما شهر كيهك رابع شهور السنة فاسمه مأخوذ من إله الخير كا ها كا، ويقصر فيه النهار، لذلك يقول المثل الشعبي: "كيهك صباحك مساك... تقوم من فطورك تحضر عشاك"، ويأتي بعده شهر طوبة، وأصله توبيا إله المطر، وشهر طوبة الذي يبدأ في الثلث الثاني من يناير يوافق موسم المطر في مصر، ونقول عنه في أمثالنا: "طوبة خلى الصبية كركوبة من كترة البرد والرطوبة"، ويليه شهر أمشير المسمى باسم عفريت الزوابع، ومن الأمثل المرتبطة به: "أمشير أبو الطبل والزعابير" و"أمشير يقول للزرع سير بلا تعسير" و"أمشير يقول لبرمهات عشرة مني خد وعشرة منك هات"، وبرمهات الشهر الذي يلي شهر أمشير ويشترك معه في الزوابع، خصوصا في أيامه الأولى، وشهر برمهات منسوب إلى بامونت إله الحرارة، ومن أشهر أمثاله: "برمهات روح الغيط وهات.... قمحات وعدسات وبصلات"، فالشهر بداية موسم الحصاد، ثم يأتي شهر برمودة المخصص لإله الموت لإن فيه ينتهي عمر الزرع ويكتمل حصاده، لذلك يقال: "برمودة دق بالعمودة"، ويسمى الشهر السابع بشنس وينسب إلى القمر، وفيه يقال: "بشنس يكنس الأرض كنس"، لأن الأرض تكون خالية من المحاصيل، ومن بعده شهر بؤونة أكثر شهور السنة حرارة، وعنه يقال: "بؤونةه تكتر فيه الحرارة الملعونة" و"ولا حر بؤونه"، ثم شهر أبيب الذي يبدأ ارتفاع الفيضان، وعنه يقال: "أبيب طباخ العنب والزبيب" و"إن كلت ملوخية في أبيب هات لبطنك طبيب"، والشهر الثاني عشر شهر مسرى، وفيه "تجري كل ترعة عسرة"ويعقبه الشهر الصغير شهر النسيء ومعناه في اللغة العقب أو الملحق لأنه ألحق بالسنة حتى تستقيم أيامها.
 رأس السنة المصرية مناسبة تستحق أن نحتفل بها شعبيًا ورسميًا وأن نجعل منها عيدًا قوميًا من أعيادنا ويومًا للمواطنة، فالسنة المصرية تجمعنا جميعا كمصريين باختلاف أدياننا وعقائدنا ومذاهبنا، فهي العيد الأقدم من أعياد المصريين، إنه يستحق أن يعود كما كان حتى عصر المماليك احتفالًا لكل المصريين وأن يكون يوم عطلة رسمية لنا جميعًا نحيي فيه تقاليد الاحتفالات الشعبية والرسمية بهذه المناسبة المهمة.

الدستور 10 سبتمبر 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق