الخميس، 3 أغسطس 2017

حادثة 4 فبراير 1942... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
حادثة 4 فبراير 1942
عماد أبو غازي
  كانت حادثة 4 فبراير 1942 ومازالت من أكثر الأحداث إثارة للجدل حول مصطفى النحاس وتاريخه الوطني، فقد استخدمها خصوم النحاس في العهد الملكي للنيل منه والتعريض به، كما ظلت الحادثة بعد يوليو 1952 نقطة الارتكاز في الهجوم على النحاس. وسيظل يوم 4 فبراير 1942 من الأيام التي يختلف المؤرخون والسياسيون في تفسيرها، ولا يتفقون على قراءة واحدة لها.
 ويتلخص الاتهام الذي يوجه إلى الرجل في هذه القضية في أنه جاء إلى رئاسة الوزارة في فبراير 1942 على دبابات الإنجليز، أو بمعنى أدق قبل تولى الحكم بناء على طلب الإنجليز وضغطهم على الملك.

 حقًا لقد عاد الوفد إلى الحكم في 4 فبراير 1942 بناء على طلب السفارة البريطانية، ليس فقط بناء على طلبها بل بضغط شديد منها وصل إلى حد حصار قصر عابدين بالدبابات والتلويح ثم التصريح بعزل الملك فاروق عن العرش، والعمل على ذلك فعليًا بإعداد وثيقة التنازل وتقديمها لفاروق في قصر عابدين للتوقيع عليها أثناء حصار القصر بالدبابات.
 لقد كان الوفد المصري الخصم الأول للإنجليز منذ تأسس في شهر نوفمبر سنة 1918، وظل الإنجليز يناصبون الوفد العداء باعتباره الحزب القائد للحركة الوطنية، كان هذا الوضع قائمًا أثناء حياة سعد زغلول ورئاسته للوفد، واستمر كذلك بعد وفاة سعد وتولي مصطفى النحاس لرئاسة الوفد، كان الإنجليز دومًا وراء إقالة حكومات الوفد، أو على الأقل كانوا سندًا قويًا للملك فؤاد ولابنه فاروق في العبث بالدستور والانقلاب عليه وفي التلاعب بإرادة الأمة بإبعاد الوفد عن الحكم، حدث هذا في وزارة سعد الوحيدة، وفي وزارات النحاس الأربع الأولى، وكان الوفد دائمًا خصمًا للإنجليز يصطدم بهم في سعيه للحصول على الاستقلال الوطني والديمقراطية.


 فما الذي تغير في فبراير 1942؟ الإنجليز؟ أم النحاس؟ أم الاثنين معًا؟
 لم يتغير موقف الإنجليز من الوفد ولا موقف الوفد وعلى رأسه النحاس من الإنجليز، لكن ما تغير كان الظرف الدولي والوضع الداخلي في مصر.
 كفة الميزان في الحرب العالمية الثانية نهاية عام 1941 والأسابيع الأولى من عام 1942 كانت تسير بشكل واضح في صالح دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، والهزائم تتوالى على الحلفاء، وكانت جبهة القتال في شمال أفريقيا مستعرة، وقوات المحور تتقدم صوب الأراضي المصرية عبر الحدود الليبية، لقد كانت ليبيا مستعمرة إيطالية منذ سنة 1911، وأصبحت في الحرب العالمية الثانية نقطة انطلاق لقوات المحور للتقدم منها لإحكام سيطرتها على شمال أفريقيا كله، كانت السيطرة على مصر وبالتالي السيطرة على قناة السويس هدفًا أساسيًا من أهداف المحور لإحكام سيطرته على العالم، فأوربا كلها باستثناء الجزر البريطانية في قبضة الألمان والإيطاليين، وقوات ألمانيا تقتحم الجبهة الشرقية وتتقدم في الأراضي الروسية، والشرق الأقصى تحت قبضة اليابان، والسيطرة على مصر تفتح الطريق للسيطرة على الشرق الأدنى كله، والانطلاق صوب الهند، كانت قوات المحور بقيادة روميل الذي يحمل في التاريخ الحربي العالمي لقب "ثعلب الصحراء" تتقدم صوب مصر.


 وفي مصر كان الوضع الداخلي غاية في الحرج، طوال أربع سنوات تدير البلاد حكومات أقلية أو حكومات إدارية لا تحظى بتأييد شعبي، وأزمة المواد الغذائية خاصة الدقيق والخبز تتفاقم، لكن الأخطر من ذلك كله كان موقف الملك الشاب فاروق، والموقف السياسي في الشارع المصري، كان فاروق متعاطفًا مع دول المحور، أولًا بحكم ميله للنظم الاستبدادية، وثانيًا بسبب الحاشية المحيطة به والتي تضم عددًا كبيرًا من الإيطاليين، والعلاقة بين إيطاليا وأسرة محمد علي قديمة، فقد استعان محمد علي في مشروعه بعدد من الإيطاليين كما وجه أولى بعثاته إلى هناك، واختار الخديوي إسماعيل إيطاليا منفى له، وعلى نهجه سار فاروق نفسه بعد تنازله عن العرش في 26 يوليو 1952، وفي إيطاليا تعلم الملك فؤاد، ومن هنا كان وجود الإيطاليين في حاشية فاروق طبيعيًا، وكان طبيعيًا أيضًا أن يدفع رجال الحاشية الإيطاليين الملك الصغير الذي كان في مطلع العشرينيات من عمره نحو دول المحور، وترددت أنباء عن مفاوضات سرية بين مبعوثين عن فاروق وهتلر، كما أصبح هناك يقين لدى الإنجليز أن إشارات ضوئية تحمل رسائل للطائرات الألمانية تخرج من قصر المنتزة.
 وعلى المستوى الشعبي وفي ظل إبعاد الوفد عن الحكم وصعود تيارات سياسية متأثرة بالنازية والفاشية مثل حركة "مصر الفتاة"، وتيارات دينية محافظة تعادي الديمقراطية وتعتبرها "رجس من عمل الشيطان" مثل جماعة "الإخوان المسلمون"، تأثر الشارع المصري بتلك التيارات، وخرجت المظاهرات في الشوارع تهتف "إلى الأمام يا روميل"، ربما من منطلق إغاظة الإنجليز، وربما من منطلق وعي سياسي زائف يتصور أن ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية ستحرران مصر من الاستعمار وتمنحانها استقلالها، وكان هذا وهمًا يدل على قصور فادح في الوعي السياسي وقتها.
 لقد ظل الإنجليز يحاولون على مدى شهور تعديل الميزان الداخلي في مصر لصالحهم بالضغط على الملك لإجراء تعديلات وزارية أو لإبعاد بعض الشخصيات المقربة منه من ذوي الميول "المحورية"، دون اللجوء إلى خصمهم الأساسي حزب الوفد، لكن محاولاتهم لم تفلح والأمور تتفاقم وروميل يتقدم في الصحراء الغربية نحو الإسكندرية، عندها لم يعد أمام الإنجليز مفر من المطالبة بعودة خصمهم اللدود النحاس باشا إلى رئاسة الوزارة وهم الذين أبعدوه عنها المرة تلو المرة.
 لكن لماذا قبل النحاس الوزارة؟ في تقديري أن الرجل اختار الانتصار للديمقراطية في مواجهة الفاشية، وأدرك اللحظة الحرجة التي يمر بها العالم، والمخاطر الحقيقية التي تحيق بمصر لو انتصر الألمان واحتلوا مصر، لقد قدر الرجل خطورة الموقف، واتخذ القرار الصائب في استعادة حقه الدستوري في تولي الحكم، ولم يكابر بشعارات جوفاء لم يكن الموقف يحتملها، وبذلك كان مصطفى النحاس واحدًا ممن أسهموا في هزيمة النازية والفاشية، فإذا كان القائد البريطاني مونتجمري قد حقق النصر الميداني على أرض المعركة في العالمين، فما كان لهذا النصر أن يتحقق لولا مصطفى النحاس الذي نجح في تأمين الجبهة الداخلية المصرية، وبعد عامين تقريبًا وبمجرد أن إطمئن الإنجليز إلى أن المحور في سبيله للهزيمة، أعطوا الضوء الأخضر للملك كي يطيح بالنحاس مرة أخرى من رئاسة الوزارة.

الدستور 3 سبتمبر 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق