الثلاثاء، 29 أغسطس 2017

طريق الثورة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
طريق الثورة...
عماد أبو غازي
 تطورت الأمور بسرعة خلال شهر يناير 1919 لتشق طريق الثورة، كان يوم 18 يناير الموعد المحدد لافتتاح مؤتمر الصلح في باريس يقترب، ولا توجد بشائر لحل أزمة سفر الوفد المصري إلى الخارج، سواء إلى لندن للتفاوض مع الحكومة البريطانية، أو إلى باريس لعرض القضية المصرية أمام المؤتمر الذي كان يفترض أن يرسم خريطة العالم ما بعد الحرب.

جورج لويد وكليمنصو وأورلاندو وويلسون
قادة الدول المنتصرة
 بات واضحًا أن رسائل الوفد لم تجد نفعًا، لا رسائله إلى المعتمد البريطاني في القاهرة، ولا تلك التي أرسلها سعد إلى لويد ﭼورﭺ رئيس الوزراء البريطاني، كذلك لم يحرك سفراء الدول الأجنبية في القاهرة الذين خاطبهم الوفد ساكنًا، إذًا لا أمل في مساندة خارجية للقضية المصرية دون حركة الشعب، هذا ما أدركه سعد ورجال الوفد.
 بدأ الوفد أسلوبًا جديدًا في التحرك، الاتجاه إلى الداخل من أجل الضغط على الخارج، كان حشد الجماهير قد بدأ بالفعل منذ اليوم الأول لتشكيل الوفد من خلال حركة جمع التوكيلات التي قدمت نموذجًا في النضال الوطني السلمي القانوني والسياسي، فعلى الصعيد القانوني أعطى التوكيل مشروعية للوفد في تمثيل الأمة، وعلى الصعيد السياسي وفرت حركة جامعي التوقيعات فرصة أمام أنصار الوفد للاتصال بالجماهير وشرح القضية، ومن ناحية أخرى كان التوكيل بمثابة عقد التزام بين الوفد وجماهير الشعب ظل يشكل قيدًا على كل محاولة للتفريط في حقوق الأمة في المفاوضات السياسية مع بريطانيا، كانت حركة جمع التوكيلات قد مهدت الأرض أمام دعوة الوفد، لكن عدم الترخيص للوفد بالسفر كان يحتم على قادته التحرك بشكل أوسع بين الشعب.
 ولما كانت الأحكام العرفية (حالة الطوارئ) مطبقة، ويحول تطبيقها بين الوفد وتنظيم اجتماعات جماهيرية، فقد اتبع قادة الوفد خطة بديلة تقوم على تنظيم لقاءات واسعة في منازلهم، وكانت البداية بدعوة من حمد باشا الباسل لاجتماع في منزله القريب من بيت الأمة يوم 13 يناير 1919، وحضر الاجتماع عدد كبير من الساسة والكتاب وأعضاء الهيئات النيابية والأعيان، وألقى سعد زغلول أول خطاب "جماهيري" له بعد تشكيل الوفد المصري، وقد صادف الاجتماع مرور شهرين على الزيارة التاريخية التي قام به سعد ورفيقيه لدار المعتمد البريطاني يوم 13 نوفمبر 1918، والتي كانت نقطة البداية لأكبر ثورة شعبية في تاريخ مصر الحديث.


 وفي خطابه أكد سعد على أن المطالبة بالاستقلال ليست جديدة على المصريين، فقد بدأت عقب الاحتلال مباشرة، وروى قصة تشكيل الوفد ومنعه من السفر، وتحدث عن مؤتمر الصلح ومبادئ الرئيس الأمريكي ولسن، ثم شرح مطالب الوفد في الاستقلال التام، وأكد أن هذا الاستقلال يشمل السودان كما يشمل مصر باعتبارهما من وجهة نظر الوفد كيان واحد، وتحدث بإسهاب عن الأجانب في مصر في محاولة جديدة لطمأنتهم، وأشار إلى حاجة مصر لوجود الأجانب وإلى أهمية استمرار الامتيازات كمرحلة انتقالية، وأكد أن الامتيازات لا تتنافى مع الاستقلال، وختم خطابه باقتراح إرسال برقية إلى الرئيس الأمريكي باسم المجتمعين يحيونه فيها ويعلنون تأييدهم لمبادئه، ولم يكتف سعد بإلقاء خطابه في حشد واسع، بل قام الوفد بطبع الخطاب وتوزيعه على أوسع نطاق في القاهرة والأقاليم.
 الطريف في الأمر أن الصحف الخاضعة للرقابة لم تشر إلى خطاب سعد، ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919 أن ما أوردته صحيفة الأهرام في عدد 14 يناير كان "نبذة عابرة لا يفهم منها شيئ"، قالت الأهرام في خبرها الذي أنقله بنصه من كتاب الرافعي:
 "دعا أمس حمد الباسل باشا العضو في الجمعية التشريعية جماعة كبيرة من أعيان العاصمة والأقاليم إلى تناول الشاي في منزله بشارع الداخلية، فلبى دعوته نحو 159 ذاتًا ووجيهًا وأديبًا، وضرب في حديقة داره الواسعة سرادقًا جميلًا نسقت فيه الكراسي والمقاعد والأخونة على أجمل طراز، ثم قدمت الحلوى وأطايب المآكل للحاضرين مع الشاي والقهوة، فقضوا جميعًا من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة بأطيب الأحاديث، ثم انصرفوا رويدًا رويدًا وجماعات جماعات، وهم يتحدثون بفخامة هذا الاجتماع وبفضل الداعي وكرمه، وكان سعادته وشقيقه وآله يقابلون المدعوين بما فطروا عليه من اللطف والكرم العربي، ويمتعون أسماعهم مع أصدقائهم وصحبهم بما يشنفها، وتمنى الكل لو كثر مثل هذا الاجتماع الكبير".
 هذا بعض ما تفعله الرقابة بالصحف!
 استمرت الأمور في تصاعدها وقدم رشدي باشا رئيس الوزراء استقالته تضامنا مع الوفد واحتجاجًا على منع الوفد الرسمي والوفد الشعبي من السفر، لكن السلطان فؤاد رفضها، وقامت بريطانيا باستدعاء مندوبها السامي السير ونجت إلى لندن للتشاور معه في أحوال البلاد، فغادر مصر عن طريق بور سعيد يوم 21 يناير.
 فكر سعد في تكرار تجربة اجتماع دار الباسل باشا، فدعا إلى اجتماع في بيت الأمة يوم 31 يناير 1919، لكن السلطات البريطانية قررت منع الاجتماع، وبالفعل أرسل الميـﭼور ﭼنرال واطسن قائد القوات البريطانية خطابًا إلى سعد باشا قبل الاجتماع بأربعة أيام يطلب منه إلغاء الدعوة، وقد نشر الرافعي نص الخطاب الذي يقول فيه واطسن:
 "علمت أن سعادتكم تعدون اجتماعًا في منزلكم بمصر في 31 الجاري يحضره نحو الستمائة أو السبعمائة شخص، وإني أرى إن مثل هذا الاجتماع قد يحدث منه إقلاق للأمن، فبناء على هذا الأعلان الصادر تحت الأحكام العرفية المعلنة بتاريخ 2 نوفمبر سنة 1914، أرجو أن تتكرموا بالعدول عن إقامة هذا الاجتماع".

 وأرسل سعد اعتذارًا إلى المدعوين يبلغهم فيه أن الاجتماع ألغي بأمر السلطة العسكرية، وفي نفس الوقت أرسل الوفد برقيتي احتجاج إلى رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي، وأعقبهما ببرقية إلى ﭼورﭺ كليمنصو رئيس وزراء فرنسا الذي كان رئيسًا لمؤتمر الصلح للمطالبة بضرورة عرض القضية المصرية على المؤتمر.
 وهكذا سدت السلطات العسكرية البريطانية منفذ الاجتماعات الحاشدة في المنازل فماذا فعل الوفد؟

 الدستور 11 فبراير 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق