السبت، 26 أغسطس 2017

الوفد وكيل الأمة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
الوفد وكيل الأمة
عماد أبو غازي
  انقطع بنا الحديث عن الثورة المصرية الكبرى، ثورة 1919، عند الحركة الواسعة التي عمت مصر كلها في نوفمبر سنة 1918، تلك الحركة التي بدأت بزيارة سعد ورفيقيه لدار المعتمد البريطاني للمطالبة بإنهاء الأحكام العرفية والسماح لهم بالسفر إلى لندن للتفاوض في أمر مستقبل مصر، والتي أسفرت عن تشكيل الوفد المصري، ليعمل بالتنسيق مع حكومة حسين باشا رشدي، ثم كان انطلاق حركة جمع التوقيعات على التوكيلات للوفد من الأمة بداية للحشد الشعبي خلف الوفد، ويبدو أن سلطات الاحتلال البريطاني لم تدرك للوهلة الأولى خطورة الحركة، ولم تكن تتصور الاستجابة الشعبية الهائلة لسعي الوفد المصري من أجل تحقيق استقلال البلاد، لكن التوكيلات وصلت إلى 2 مليون توكيل في شعب كان تعدده 14 مليونًا، وفقًا لما ذكره المؤرخ المصري المعاصر لأحداث الثورة محمد صبري الشهير بالسوربوني، في الجزء الأول من كتابه "الثورة المصرية" الذي ألفه بالفرنسية أثناء الثورة، وصدر في فرنسا في إطار حملة الدعاية للثورة التي نظمتها الجمعية المصرية بباريس.


 لقد أثبت نجاح حركة التوكيلات إجماع الأمة على الالتفاف حول الوفد المصري ومؤازرة مطالبه بالسفر إلى إنجلترا وفرنسا للدفاع عن القضية المصرية وعرض مطالب الأمة.
 كانت السلطات البريطانية في مصر تكتفي بالمماطلة في الرد على طلب سعد وأعضاء الوفد المصري بالسفر، وتمنيهم بأن الأمر محل دراسة، نفس الشيئ فعلته مع رشدي باشا وعدلي يكن باشا، لكن اتساع حركة التوقيع على التوكيلات وانضمام ضباط الجيش والموظفيين العموميين لها، ومباركة الحكومة للحركة دفعت السلطات البريطانية لتغيير موقفها، فقد شعرت سلطات الاحتلال البريطاني بخطورة الحركة فقررت التصدي لها، فأصدر المستر هينز المستشار الإنجليزي لوزارة الداخلية أوامره إلى مديري المديريات باستخدام القوة لمنع حركة التوقيعات وبمصادرة التوكيلات.


 وجاء رد سعد زغلول في رسالة وجهها إلى حسين رشدي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية يوم 23 نوفمبر 1923 أوردها عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن ثورة 1919، قال فيها:
 "حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء ووزير الداخلية
 أتشرف بأن أرفع لدولتكم ما يلي: لا يخفى على دولتكم أنه على أثر فوز مبادئ الحرية والعدل التي جاهدت بريطانيا العظمى وشركاؤها لتحقيقها، ألفت مع جماعة من ثقات الأمة ونوابها وأصحاب الرأي فيها وفدًا لينوب عنها في التعبير عن رأيها في مستقبلها تطبيقًا لتلك المبادئ السامية، لذلك شرعنا في جمع هذا الرأي بصيغة توكيل خاص، فوق ما لكثير منا من النيابة العامة، فأقبل الناس على إمضاء هذا التوكيل إقبالًا عظيمًا مع السكينة والهدؤ، هذا أقل مظهر نعرفه من مظاهر الإعراب عن رأي الأمة في مصيرها، لكنه قد اتصل بنا أن وزارة الداخلية قد أمرت بالكف عن إمضاء هذه التوكيلات، ونظرًا إلى أن هذا التصرف يمنع من ظهور الرأي العام في مصر على حقيقته، فيتعطل بذلك أجل مقصد من مقاصد بريطانيا العظمى وشركائها، وتحرم الأمة المصرية من الانتفاع بهذا المقصد الجليل، ألتمس من دولتكم باسم الحرية والعدل أن تأمروا بترك الناس وحريتهم يتمون عملهم المشروع، وإذا كانت هناك ضرورة قصوى ألجأت الحكومة على هذا المنع، فإني أكون سعيدًا لو كتبتم لي بذلك حتى نكون على بصيرة من أمرنا، ونساعد الحكومة بما في وسعنا على الكف عن إمضاء تلك التوكيلات.
 وفي انتظار الرد تفضلوا يا دولة الرئيس بقبول شكري سلفًا على تأييد مبادئ الحرية الشخصية وعظيم احترامي لشخصكم العظيم.
 الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية ورئيس الوفد المصري
سعد زغلول"
 وعندما بلغ قيادات الوفد قيام السلطات بمصادرة التوكيلات الموقعة، أرسل سعد خطابًا ثانيًا إلى رشدي يوم 24 نوفمبر 1918 يشكو فيه من "أن رجال الحكومة لم يقتصروا على منع التوقيع على التوكيلات بل تجاوزوه إلى مصادرة ما تم التوقيع عليه منها..."
 ووفقا لتفسير الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه "تطور الحركة الوطنية" فإن الهدف من الخطابين كان إثبات واقعة المصادرة أكثر مما كان الهدف منهما وقف إجراءات منع حركة التوكيلات.
 وفي اليوم التالي يوم 25 نوفمبر 1918 رد حسين باشا رشدي على سعد زغلول مؤكدًا أن المصادرة جاءت بأوامر من المستشار البريطاني استنادًا إلى استمرار الأحكام العرفية...
  واستمرت حركة التوكيلات فقد شعر رجال الإدارة أن الحكومة توافق عليها وتساندها فتراخوا في التصدي لها.
 وفي يوم 28 نوفمبر 1918 أرسل سعد إلى السلطات العسكرية البريطانية يستعجل التصريح له بالسفر، فجاءه الرد بعد يوم واحد بأنه "قد عرضت صعوبات تمنع من إجابته إلى طلبه في الوقت الحاضر، ومتى زالت تلك الصعوبات تبادر بإعطائه وصحبه الجوازات التي يطلبونها..."
 كشف الجواب نوايا السلطة العسكرية البريطانية تجاه قضية سفر الوفد المصري، ومدى استهانة سلطات الاحتلال بالشعب وبإرادته، فخاطب سعد المندوب السامي البريطاني في نفس اليوم مطالبا إياه بتذليل الصعوبات أمام سفر الوفد المصري ليتمكن من الوصول إلى لندن قبل موسم الأعياد في الأسبوع الأخير من ديسمبر، عندئذ أسفرت دار الحماية عن موقفها وأبلغت سعد بخطاب رسمي في 1 ديسمبر برفض سفره هو وزملاؤه، وإن عليهم أن يقدموا تصوراتهم كتابة إلى المندوب السامي البريطاني بمصر، على أن لا تخرج تلك المقترحات عن الخطة التي رسمتها الحكومة البريطانية لمستقبل مصر.

الدستور 28 يناير 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق