الأربعاء، 31 مايو 2017

فيردي مصر ... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
فيردي مصر ...
عماد أبو غازي
 في إحدى الأمسيات أشار بعض أصدقائه إلى الشبه الغريب بين شكل رأسه وشكل رأس الموسيقي الإيطالي الكبير فيردي صاحب أوبرا عايدة، والذي يعتبر من أبرز مؤلفي الأوبرا الإيطاليين في القرن التاسع عشر، بل هو أحد أعلام الموسيقى العالمية عبر العصور.
 يومها أجاب الرجل على ملاحظة صديقه قائلًا: "أنا لا أقل عن فيردي، أنا فيردي مصر".

 إنه سيد درويش الذي توفي في مثل هذه الأيام من شهر سبتمبر عام 1923، توفي وهو في قمة مجده الفني وتوهجه الإبداعي، توفي وهو يستعد لاستقبال الزعيم سعد زغلول يوم عودته من المنفي بالنشيد الذي ألفه ولحنه خصيصًا لهذه المناسبة وقال في مطلعه:
مصرنا وطنا سعدها أملنا           كلنا جميعا للوطن ضحية
أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا    أن تعيش مصر عيشة هنية
وختمه بقوله:
إحنا غايتنا       نرفع رايتنا
أحرار خلقنا      نأبى المذلة
يا عيشنا سعدا    يا متنا شهدا
لنحيا أمة   مستقلة
 لقد رحل سيد درويش وهو بعد شاب تجاوز الحادية والثلاثين من عمره بشهور قليلة، فقد ولد صاحبنا بالإسكندرية في شهر مارس عام 1892 بحي كوم الدكة، ونشأ في بيئة شعبية بسيطة، والتحق مثل غيره من أبناء جيله بكُتّاب الحي، وفي الكُتّاب، كُتّاب حسن حلاوة لمس مدرسه سامي أفندي ـ الذي كان يُحفّظ الأناشيد ويُلقنها للصغار ـ استعداد الصبي سيد درويش البحر لاستيعاب الأغاني والألحان بسرعة، وعندما التحق بمدرسة "شمس المدارس" بحي رأس التين التقى بنجيب أفندي فهمي ضابط المدرسة الذي كان مولعًا هو الآخر بتلقين تلاميذه الأناشيد التي كانت تعرف في ذلك الوقت بالسلامات، وتفتتح بها الحفلات المدرسية. وفي عام 1905 عندما بلغ الفتى الثالثة عشرة من عمره تقدم بطلب للالتحاق بالمعهد الديني بمسجد المرسي أبو العباس، وواصل سيد درويش الدراسة بالمعهد الديني لمدة عامين، تعلم خلالهما تجويد القرآن ودرس بعض علوم الدين، وارتدى الزي التقليدي للمشايخ الأزهريين وطلبة المعاهد الدينية، لكن روح الفنان داخل سيد درويش كانت غالبة، فانصرف تدريجيًا عن الدراسة، وتردد على الموالد للإنشاد فيها، ومنها إلى الحفلات والأفراح، وأدى عدم تفرغه للدراسة وتردده الدائم على مجالس السمر في حي كوم الدكة الذي ولد ونشأ فيه إلى فصله نهائيًا من المعهد الديني في نهاية عامه الدراسي الثاني به، بعد إنذاره أكثر من مرة،  ليخسر بذلك الفتى سيد درويش البحر ابن الخمسة عشر عامًا "مستقبله" الدراسي كما كان يراه معظم أهل عصره من أبناء الطبقات الشعبية، ولتكسب مصر علمًا من أعلام نهضتها الحديثة فنان الشعب سيد درويش.
 لقد عاشت مصر في السنوات الأولى من القرن العشرين لحظات مخاض لدور جديد من أدوار النهضة الثقافية والبعث الوطني في العصر الحديث، فبعد كبوة الاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882 بسنوات بدأت مصر تستعيد عافيتها مرة أخرى وعادت بذور النهضة الثقافية والفكرية لتنبت نبتًا جديدًا، وإذا كانت تلك البدايات قد جاءت على أيدي رجالًا ينتمون إلى الجيل الذي شهد أحداث الاحتلال من أمثال الشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين ومصطفى كامل ومحمد فريد وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، فسرعان ما التحق بهم جيل جديد من الشبان الذين ولدوا بعد الاحتلال بسنوات، لقد كان سيد درويش أحد أبناء ذلك الجيل الذي حمل على كاهله عبء حلقة من حلقات نهضة مصر الحديثة، إنه الجيل الذي ولد أبناؤه في آواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، وبدأت مواهبهم تتفتح في العقدين الأولين من القرن العشرين، لكن انطلاقهم الحقيقي كان مع الثورة الشعبية الكبرى ثورة 1919، إنه الجيل الذي ضم طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وأحمد أمين ثم توفيق الحكيم في الأدب والفكر، وبيرم التونسي وبديع خيري في الزجل وشعر العامية، ومختار وناجي وراغب عياد ويوسف كامل وأحمد صبري ومحمد حسن ومحمود سعيد في الفنون الجميلة، وكان سيد درويش هو علامة ذلك الجيل في الموسيقى والغناء.
 وقد تميز أبناء ذلك الجيل بأنهم نبغوا في مرحلة الشباب المبكر، فأغلبهم قدم إنجازًا مهما وهو بعد في العقد الثالث من عمره، كما أنهم عرفوا كيف يتمردون على الثوابت ويتجاوزوا الواقع متطلعين إلى المستقبل، فكانوا بذلك بناة نهضة حقيقية، ثم جاءت الثورة المصرية سنة 1919 لتطلق أقصى طاقاتهم الإبداعية، حيث ارتبطوا بالثورة وبالحركة الوطنية المصرية وأصبحوا لسان حالها في الفن والأدب والثقافة، لقد حولتهم الثورة التي اندمجوا بمسيرتها إلى شموس في سماء الوطن، ومن بين هؤلاء كان سيد درويش أو فيردي مصر كما قال على نفسه، الذي كان صوت الثورة وأغنيتها وكان في ذات الوقت ثورة في النغم والغناء.
الدستور 20 سبتمبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق