الخميس، 18 مايو 2017

مخربشات
أنا وعبد العزيز وساويرس ...
عماد أبو غازي

 عرفت كتاب ساويرس بن المقفع "تاريخ الآباء البطاركة" في منتصف السبعينات وأنا أعد بحثًا للماجستير رفض أساتذتي أن أسجله، حول ثورات المصريين في عصر الولاة، وكان هذا الكتاب أحد مصادري الأساسية حول واحدة من أكبر وأهم الثورات التي قام بها المصريون في العصر العباسي، والتي كادت أن تحقق استقلال مصر عن دولة الخلافة، لولا أن المأمون حضر بنفسه على رأس جيوشه لإخماد الثورة التي عرفت بثورة البشموريين، وقتل آلاف من المصريين حتى يستتب له الأمر.
 في مطلع هذا العام صدرت عن مكتبة مدبولي طبعة جديدة من الكتاب بتحقيق الباحث المدقق عبد العزيز جمال الدين، وأظن أن عمله في تحقيق هذا الكتاب قد استغرق منه أكثر من ربع قرن، فمنذ عرفته في مطلع الثمانينيات وهو يتحدث عن هذا الكتاب باهتمام، ويتمنى أن يراه محققًا تحقيقًا جديدًا ومتوفرًا بين أيدي الباحثين.


 وقتها كان عبد العزيز جمال الدين يصدر واحدة من النشرات غير الدورية  التي انتشرت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، حيث اتجه عديد من المثقفين والمبدعين المصريين إلى إصدار مجلات ثقافية وفكرية تحمل إبداعاتهم وهمومهم ورؤاهم لهذا الوطن، وللتحايل على قيود قوانين النشر والصحافة، التي كانت تحول بين جيل كامل من المثقفين والمبدعين ونشر أعمالهم وأفكارهم، خاصة أولئك الذين كان يتبنون مواقف تقدمية، كانت هذه المجلات تحمل اسم "نشرة غير دورية"، أو "كتاب غير دوري"، باعتبارها ليست مجلات وبالتالي لا تحتاج إلى رخصة، متخذين في ذلك شاعرنا الكبير بيرم التونسي قدوة ومثالًا، عندما ظلت السلطات تلاحق ما يصدره، أصدر "المسلة" وكتب في ترويستها: "المسلة لا جريدة ولا مجلة"، وقد ساعد تطور تقنيات الطباعة في تلك الحقبة، وظهور أسلوب طباعة الماستر على انتشار هذه الموجة الجديدة من النشرات التي نجحت في كسر أسوار الحصار التي فرضت على قطاعات من المثقفين والكتاب والمبدعين، مثلما تقود ثورة المعلومات والاتصالات اليوم إلى زوال القيود والحواجز وترسخ يومًا بعد يوم قدرات الشعوب على انتزاع حقوقها، فدومًا يستطيع الناس أن يتغلبوا على قيود السلطة مهما اشتدت إذا أرادوا.
 تنوعت النشرات غير الدورية في شكلها ومضمونها ومستواها ومدى قدرة مصدريها على الاستمرار في إصدارها، ومن بين عشرات من النشرات غير الدورية التي صدرت في تلك المرحلة، كانت "مصرية" التي أصدرها عبد العزيز جمال الدين مع مجموعة من زملائه، النشرة الأكثر جمالًا، والأكثر قدرة على الاستمرار، والأكثر انسجامًا في موضوعاتها، كانت تتميز بوضوح الرؤية، كانت تأخذ شكل المجلة الفكرية التي تنشر البحوث والدراسات أكثر من المجلة الثقافية العامة، وكان عبد العزيز جمال الدين فضلًا عن دوره في تحرير المجلة يتولى الإخراج الفني لها بحرفية وإتقان يجعل من كل عدد من أعدادها قطعة فنية متفردة، الأمر الذي جعل مصدرو النشرات غير الدورية يتسابقون على طلب عبد العزيز ليخرج لهم نشراتهم، ولم يبخل الرجل إطلاقًا بتقديم جهده وفنه وخبرته متطوعًا حتى لمنافسيه.
 عرفت عبد العزيز كاتبًا في مصرية ومخرجًا فنيًا لها قبل أن أتعرف عليه شخصيًا في ندوة نظمها لشاعر شعبان يوسف في نادي الأدب بمقر حزب التجمع بالزيتون سنة 1981 حول هذه النشرات، وكنت أشارك مع مجموعة من الأصدقاء في إصدار كتاب غير دوري يحمل اسم "موقف"، منذ التقيت عبد العزيز جمال الدين أصبحنا صديقين جمعت بيننا مشتركات كثيرة منها الاهتمام بالتاريخ، ثم تصادف أن عملنا معًا في دار المعارف لعدة أشهر عام 1982، عندما التحقت بوحدة تحقيق التراث مع الدكتور حسين مؤنس رحمه الله، ثم  اشتركنا معا في تحقيق مخطوط لإسماعيل الخشاب بعنوان "أخبار أهل القرن الثاني عشر"، صدر عام 1990، وعندما أخبرني عبد العزيز منذ سنوات أنه قطع شوطًا في تحقيق كتاب "تاريخ الآباء البطاركة"، أشفقت عليه من مشقة العمل، واقترحت أن يقوم بالعمل في إطار فريق من المتخصصين، فالعمل كبير وغير تقليدي ويحتاج إلى جهود فريق من المحققين المتخصصين في مجالات معرفية مختلفة، وطبعة جمعية الدراسات القبطية رغم أهميتها إلا أنه تقتصر تقريبًا على تحويل النص المخطوط إلى كتاب مطبوع مع تعليقات علمية قليلة متفرقة.
 ورغم أني أعرف قدرات عبد العزيز جمال الدين العالية وسعة إطلاعه وثقافته متعددة المجالات، فضلًا عن دأبه ومثابرته، كما أعلم أنه أصدر طبعة محققه متميزة من تاريخ الجبرتي، مع ذلك كله كنت أقول أن تاريخ الآباء البطاركة أمر آخر، وأعترف اليوم بخطئي، وأعتقد أنني مدين لعبد العزيز جمال الدين باعتذار فقد تصورت أن مثل هذا العمل شاق عليه، لكنه أثبت أنه مازال شابًا في القدرة على العمل شيخًا في الحكمة والخبرة، عندما اقتنيت الكتاب في طبعته التي حققها عبد العزيز عن مجموعة من المخطوطات الأصلية، وصدرت في ستة مجلدات ضخمة، انحنيت احترامًا للجهد الذي بذله في إخراج هذا العمل المهم، وإضافة نصًا موازيًا له يحمل تعليقاته العلمية، والرؤى المقابلة لرؤية ساويرس ومن أكملوا عمله، فضلًا عن استكمال العمل حتى عصرنا الراهن، لقد قدم عبد العزيز جمال الدين عملًا  يستحق أن يقتنيه كل مهتم بتاريخ مصر.

الدستور مايو 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق