السبت، 20 مايو 2017

دنشواي بعد ميت سنة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
 دنشواي بعد ميت سنة...
عماد أبو غازي

 تحتفل مصر بذكرى مئوية حادثة دنشواي، فغدًا تنظم دار الكتب والوثائق القومية بالتعاون مع لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة ندوة علمية حول هذه المناسبة، ويوم 13 يونيو الذي يوافق ذكرى الحادث تفتتح الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ندوتها التي تتناول حادثة دنشواي بأبعادها التاريخية والسياسية وانعكاساتها في الفن والأدب، ففي مثل هذا الشهر منذ مئة عام وقعت حادثة دنشواي التي قال عنها المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية": "لا مراء في أن حادثة دنشواي هي من حوادث مصر التاريخية التي لا تُنسى على مر السنين، لما كان لها من الأثر البليغ في تطور الحركة الوطنية، وفي مركز الاحتلال الإنجليزي، فهي نهاية عهد كان الاحتلال يتمتع فيه بالاستقرار والطمـأنينة، وبداية مرحلة جديدة من مراحل الجهاد القومي عم فيها الشعور الوطني بعد أن كان الظن أن سواد الأمة راض عن الاحتلال".
 لقد كان الرافعي مؤرخ الحركة الوطنية محقًا فيما قال، فالحادث بالفعل من الأيام التي لا تُنسى في تاريخنًا، لقد حولت رعونة سلطات الاحتلال البريطاني وجبروتها ومبالغتها في استخدام القوة الغاشمة، وخنوع ذيولها من المصريين، حادث صيد حمام بسيط إلى قضية كبرى فجرت طاقات الحركة الوطنية المصرية وأطلقت الغضب الشعبي في مصر من عقاله وأيقظته من ثباته، وهزت الرأي العام العالمي وأعادت القضية المصرية بقوة إلى الساحة الدولية بعد أن انزوت بالوفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا سنة 1904، وبلغت أهمية الحادثة درجة دفعت محافظة المنوفية إلى اتخاذ ذكراها عيدا قوميا وبرج الحمام شعارا لها.
 وتبدأ الحادثة كما يرويها عبد الرحمن الرافعي ـ الذي كان وقتها شابًا يدرس في السنة الثانية بمدرسة الحقوق ـ عندما غادرت كتيبة من جيش الاحتلال البريطاني القاهرة يوم 11 يونيو 1906 متوجهة إلى الإسكندرية، وتوقفت بمنوف يوم 13 يونيو للراحة، فأبلغ خمسة من ضباط الكتيبة مأمور المركز رغبتهم في الصيد بقرية دنشواي القريبة، والمشهورة بتربية الحمام، ويذكر مؤرخنا عبد الرحمن الرافعي كعادته التفاصيل الصغيرة للحادث، فيحدد لنا أسماء الضباط الإنجليز الخمسة وهم الميجور بين كوفن قومندان الكتيبة، والكابتن بول، والملازمان بورتر وسميث ويك، والطبيب البيطري بوستك، ويقول الرافعي أن المأمور طلب من عبد المجيد بك سلطان أحد أعيان بلدة الواط أن يعد لهم راكيب تتولى نقلهم لبلدة دنشواي، ففعل، وذهب الضباط الخمسة بصحبة أومباشي من بوليس نقطة الشهداء وترجمان مصري، وتوجه الأومباشي إلى العمدة ليبلغه خبر قدوم الضباط ليتخذ الاحتياطات اللازمة التي تضمن عدم احتكاكهم بالأهالي، لكن العمدة كان غائبًا، ولم ينتظر الضباط عودته، فهم يتصورون أن البلد بلدهم يفعلون فيها ما يشاءوا، فانقسموا فريقين فريق وقف على السكة الزراعية لصيد الحمام من على الأشجار وهؤلاء لم يصبهم أحد بشيء، والفريق الآخر دخل إلى القرية وتوغل في وسط أجران القمح، ومن هنا بدأت رحلة الصيد العادية التي تكررت مئات المرات من قبل تتحول إلى حادثة هزت مصر وامتدت آثارها إلى العالم.
 كيف حدث ذلك؟
 صوب أحد الضباط بندقيته نحو حمامتين واقفتين على جرن قمح يملكه محمد عبد النبي مؤذن القرية، فصاح به شحاته عبد النبي أخو صاحب الجرن هو وشيخ يبلغ من العمر 75 سنة اسمه حسن علي محفوظ (كان أول من نفذ فيه حكم الإعدام بعد المحاكمة) أن يتوقف عن إطلاق النار حتى لا يشتعل الجرن، طبعا الخواجة لم يفهم كلامهما، واستمر في إطلاق النار، فتسببت رصاصة طائشة في إشعال النار في الجرن، وأصابت رصاصة أخرى الست أم محمد زوجة صاحب الجرن بجراح وتصور الناس أنها ماتت، فهجم شحاته على الضابط محاولًا انتزاع بندقيته، وخرج أهالي القرية يصيحون "الخواجة قتل المره وحرق الجرن"، وأحاطوا بالضابط، وفي نفس الوقت جاء بقية الضباط الإنجليز في محاولة لتخليص زميلهم، ووصل شيخ الغفر مع الغفرا لتفريق الجمع، فتصور الضباط الإنجليز إنه قادم لضربهم فأطلقوا عليه الرصاص فسقط جريحًا بإصابة في فخده، فجرى العيال في القرية يصيحون: "شيخ الغفر اتقتل"، وأخذ الأهالي يقذفون الضباط بالطوب، فهرب الإنجليز بعد أن أصيب قومندان الكتيبة بكسر في ذراعه وجرح الملازمان سميث ويك وبورتر ووقعوا في أسر الغفر، وتم تسليمهم لوحدتهم.
 أما الكابتن بول الذي أصيب في رأسه وزميله الطبيب البيطري فقد أطلقا ساقيهما للريح خوفًا من غضب الأهالي، وجريا 8 كيلو في عز حر بؤنة، فسقط الأول من الإعياء عند مدخل قرية سرسنا، وتركه الطبيب الندل واستمر في الجري حتى وصل للمعسكر، فلاح مصري اسمه سيد أحمد سعيد شاهد الكابتن على الأرض فطسان من الحر، فتقدم يسقيه الماء، في الوقت الذي وصلت فيه قوة من الكتيبة الإنجليزية، فطعنوا سيد أحمد بسناكي البنادق وانهالوا على رأسه ضربًا بكعوبها فسقط قتيلًا وسماه الناس شهيد سرسنا، ومات الكابتن بول بضربة الشمس، كما أكد ذلك تقرير الطبيب الشرعي البريطاني.
 عندما وصل الخبر إلى القاهرة ثارت ثائرة اللورد كرومر، وبعد أسبوع واحد من الحادثة أصدر بطرس باشا غالي وزير الحقانية قرارًا بتشكيل محكمة مخصوصة استنادًا إلى أمر عالي كان قد صدر سنة 1895، بتشكيل محاكم مخصوصة لمحاكمة المصريين الذين يتهمون بالتعدي على ضباط وجنود جيش الاحتلال.
وللحديث بقية.

 الدستور يونيو 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق