الخميس، 18 مايو 2017

ساويرس بن المقفع وتاريخ الكنيسة المصرية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
ساويرس بن المقفع وتاريخ الكنيسة المصرية
عماد أبو غازي
 مصر بلد التاريخ كما يقال دائمًا، فعلى أرضها نشأت واحدة من أقدم الحضارات الإنسانية المعروفة، ونشأت أول دولة وأمة استمرت عبر آلاف السنين، وشعبها أقدم من ابتكر الكتابة على وجه الأرض، الكتابة التي مكنت الإنسان من تحويل ذاكرته الداخلية إلى ذاكرة خارجية مدونة يتم تناقلها عبر المكان والزمان، وما التاريخ إلا ذاكرة بالدرجة الأولى، وكان الفلاح المصري صاحب أقدم تقويم معروف ابتكره منذ ستة آلاف سنة وما زال مستخدمًا إلى يومنا هذا، هو التقويم النجمي المصري الزراعي، الذي نعرفه اليوم بتقويم الشهداء، وكان طبيعيًا أن يظهر على أرض مصر عبر العصور عشرات ممن ينشغلوا بتدوين تاريخ هذا الوطن والشعب، نعرف قليلين منهم ونجهل أغلبهم، ربما يكون أقدم من عرفناه من أبناء مصر الذين كتبوا تاريخها الكاهن السمنودي مانيتون، الذي سجل قوائم الأسرات التي حكمت مصر منذ توحيدها حتى نهاية عصر الاستقلال.

 وفي فترة العصور الوسطى  انتشرت الكتابة التاريخية بين المصريين، وإذا كنا نعرف كثيرين من مؤرخي مصر من المسلمين بدأ بالرواد الأوائل مثل: ابن عبد الحكم المصري صاحب كتاب "فتوح مصر والمغرب والأندلس"، والكندي صاحب كتابي "ولاة مصر" و"قضاة مصر"، ومرورًا بابن منجب الصيرفي وابن فضل الله العمري انتهاء بمؤرخي عصر الازدهار في المدرسة التاريخية المصرية: عبد الرحمن بن خلدون وتلميذه تقي الدين المقريزي وابن حجر العسقلاني والسخاوي والسيوطي من المشايخ الذين كتبوا التاريخ، وابن تغري بردي وابن إياس من أبناء المماليك الذين أصبحوا مؤرخين، أقول إذا كنا نعرف هؤلاء المؤرخين المشاهير فإن هناك عشرات غيرهم ممن كتبوا التاريخ وأهملهم التاريخ؛ ومن هؤلاء مجموعة من المؤرخين المصريين المسيحيين، الذين كتبوا تاريخ مصر برؤية أبناء البلد، ومن أقدهم يوحنا النقيوسي الذي عاش في القرن السابع الميلادي وكتب تاريخًا لمصر والعالم القديم باللغة القبطية، ومن أهمهم ساويرس بن المقفع، صاحب كتاب "سير الآباء البطاركة" أو "تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية"، وهو من أشهر التواريخ التي تتبع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية منذ نشأتها إلى القرن التاسع عشر.
 ويعد ساويرس بن المقفع من أهم مؤرخي مصر في العصور الوسطى، رغم أنه غير معروف إلا بين بعض المتخصصين في الدراسات التاريخية، وقد ولد ساويرس في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، ويرجح من درسوا سيرته وتاريخه أن يكون قد ولد حول عام 915 ميلادية، أي في عصر الدولة الإخشيدية في مصر، ويبدو أنه قد عاش إلى أواخر القرن العاشر، فقد عاش إلى نهاية عصر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله أول خلفاء الدولة الفاطمية في مصر، وربما يكون قد عاش بعد ذلك، لقد عاش ساويرس في فترة مهمة من تاريخنا، وكان معاصرًا للحظة تحول محورية في التاريخ المصري، لحظة تحول مصر من ولاية لها استقلالها الذاتي في إطار الدولة العباسية، تحت حكم الأسرة الإخشيدية، إلى مركز لدولة خلافة كبرى بعد أن دخلها جوهر الصقلي قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي، وشيد مدينة القاهرة لينقل إليها الخليفة عاصمة دولته.
 وكان ساويرس من مثقفي عصره، وقد عمل في الجهاز الإداري للدولة في العصر الأخشيدي، وترقى في وظائف الكتاب، إلى أن اتجه إلى الرهبنة وترك الحياة المدنية، وبعد أن انخرط ساويرس في سلك الرهبنة تدرج في الوظائف الكنسية إلى أن أصبح أسقفًا لإقليم الأشمونين، الذي كان يقع إلى الشمال من ملوي في محافظة المنيا الحالية، ومن يومها صار يعرف بساويرس أسقف الأشمونين.
 وقد ألف ساويرس أكثر من عشرين عملًا مختلفًا، بعضها طبع ونشر وبعضها الآخر مازال مخطوطًا، وتميز ساويرس بأنه من أوائل من كتبوا أعمالًا ذات صلة بالكنيسة المصرية باللغة العربية، ومن أهم مؤلفات ساويرس بن المقفع وأكثرها شهرة بين المتخصصين، كتابه "سير الآباء البطاركة"، ورغم أن عنوان الكتاب يوحي بأنه كتابًا في التاريخ الكنسي، إلا أنه كتابًا يؤرخ لمصر كلها، وإن كان قد قسم كتابه وفقا لعصور آباء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية،  وقد غطى العمل الأصلي لساويرس  فترة طويلة من تاريخها تمتد من بداية اعتناق المصريين للمسيحية حتى بدايات العصر الفاطمي، وقد أكمل مجموعة من الكتاب معظمهم مجهولين هذا العمل إلى نهاية القرن التاسع عشر، إلا أن الجزء الذي ألفه ساويرس بن المقفع يتميز بالاهتمام بكثير من التفاصيل الدقيقة، وبمتابعة لجوانب حياة مصر السياسية في ذلك العصر.
 وقد عنيت جمعية الآثار القبطية بطبع الكتاب ونشره في القرن الماضي، لكن مطلع هذا العام، عام 2006 شهد صدور طبعة جديدة محققة تحقيقًا علميًا دقيقًا ومزودة بشروح وتعليقات ونصوص موازية، قام عليها باحث محقق مدقق أخرجها في ستة مجلدات، ولهذه المجلدات الستة ومحققها ومخرجها إلى النور الباحث عبد العزيز جمال الدين حديث آخر.

الدستور مايو 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق