الجمعة، 12 مايو 2017

طالبان في الدراسة!!! من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
طالبان في الدراسة!!!
عماد أبو غازي
 الاثنين الماضي 27 مارس صادف الذكرى الثانية والسبعين لوفاة رائد فن النحت الحديث في مصر، المثال مختار الذي أعاد لفن النحت المصري مكانته بين فنون العالم، الذي التقط ـ كما يقال ـ الأزميل من يد أخر نحات مصري قديم ليواصل المسيرة بعد انقطاع قارب ألفي عام، وقد مرت عليَّ الذكرى هذا العام وأنا أعيش مع مختار من خلال أوراقه وصوره الفوتوغرافية وكتبه الشخصية التي تضمها مكتبته وما تبقى لدى الأسرة من تماثيله التي نحتها وصب فيها خلاصة فكره وإبداعه وما تركه من أشياء صغيرة وبسيطة احتفظت بها شقيقته، التي هي جدتي لأبي، أثناء إخلائي لشقتها.
 وأنا في وسط هذه الأجواء المثيرة والممتعة بالنسبة لي، شخصيًا ومهنيًا، أكتشف كل يوم جديد مدهش لي كباحث يشتغل بالتاريخ والوثائق، صدمت بما هو أكثر إثارة للدهشة والاستغراب من كل ما عثرت عليه، فقد قرأت في الصفحة الأولى من "المصري اليوم" الفتوى المنسوبة لفضيلة المفتي الدكتور علي جمعة، والتي أفتى فيها بتحريم التماثيل وحرمانية استخدامها للزينة في المنازل.
 معقول!! هل يمكن أن تصدر مثل هذه الفتوى عن دار الإفتاء؟ وأين... في مصر بلد النحت ومهد الإبداع في هذا الفن على مستوى العالم؟  ومتى... في مطلع القرن الحادي والعشرين؟
 في الوقت الذي نعد فيه للاحتفال بمرور مئة عام على افتتاح مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها الأمير يوسف كمال وافتتحت في مايو سنة 1908، قبل افتتاح الجامعة الأهلية بسبعة أشهر، حيث افتتحت الجامعة في ديسمبر من عام 1908، مدرسة الفنون الجميلة التي تعد واحدة من أقدم مدارس الفنون خارج أوروبا، والتي تضم منذ تأسيسها دراسة لفن النحت.
 في مصر التي أفتى فيها الأمام محمد عبده منذ أكثر من قرن من الزمان بأن الفنون الجميلة من نحت وتصوير وموسيقى ترقي الذوق وتهذب النفس، وإن الزمن قد بعُد بين الناس وصناعة التماثيل لعبادتها، وبالتالي فلم يعد للتحريم محل من الإعراب، فماذا الذي تغير؟
 هل غزت الوهابية عقول رجال الأزهر الشريف وعلماءه؟ هل عشش فكر طالبان في مصر بعد أن زالت دولتهم في أفغانستان؟
 طاف بي خاطر في ظلال الفتوى الطلبانية التي نسبت لفضيلة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية بتحريم التماثيل، ماذا لو أن مختار قد ولد وعاش في عصر فضيلة المفتي الدكتور علي جمعة ولم يعش في عصر إمام الاستنارة الشيخ محمد عبده؟
 أو بصيغة أخرى ماذا لو كان الدكتور علي جمعة مفتيًا للديار المصرية في مطلع القرن العشرين لا في مطلع القرن الحادي والعشرين؟
 وماذا كانت ستخسر مصر وفنها لو صدق مختار وأقرانه وتلاميذه ومن جاء بعده من نحاتين مصريين عظماء من أمثال عبد البديع عبد الحي ومحمود موسى وعبد القادر رزق ومنصور فرج وجمال السجيني وصلاح عبد الكريم وآدم حنين وعبد الهادي الوشاحي وفاروق إبراهيم ومحمود شكري وغيرهم كثيرين، فتوى تحريم التماثيل وعملوا بها؟
 من المؤكد أننا كنا سنخسر الكثير والكثير من القيم الجميلة في حياتنا.
  لكن التاريخ ليس فيه ماذا لو... لقد تداركت فورًا، إنه مناخ عام ساد مصر فأتى بمحمد عبده وأترابه وفتاواه الدافعة بالمجتمع إلى الأمام، مناخ كانت فيه مصر كلها تتطلع إلى الانتفاض في مواجهة المحتل الجاسم على صدرها، تسعى لاستكمال مسيرة التحديث التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، في هذا المناخ كانت محاولة الشيخ محمد عبده للإصلاح الديني وكان ظهور جيل من المفكرين الإصلاحيين، ومن الساسة الوطنيين، مهدوا جميعًا الطريق أمام قيام الثورة المصرية الكبرى ثورة 1919، والتي لم تكن مجرد ثورة شعبية سياسية، بل نهضة شاملة في الفنون والآداب والثقافة امتدت لكل نواحي الحياة وكان أعمدتها أبناء ذلك الجيل الذي ولد أواخر القرن التاسع عشر، طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وسيد درويش وراغب عياد ويوسف كامل ومختار نحات مصر العظيم، الذي جسد ثورة الأمة في تمثال نهضة مصر، ذلك التمثال الذي شيده المصريون بقروشهم ليكون رمزًا لهم، وما زال هذا التمثال الرمز شعارًا لكل ما هو متقدم في حياتنا المصرية.
ومناخ عام أيضًا هو الذي جاء بفتاوى الدكتور علي جمعة التي حرم فيها التماثيل، إنه مناخ تحولت فيه مصر من مجتمع مدني يحكمه شعار "الدين لله والوطن للجميع"، إلى مجتمع يسيطر فيه الفكر الديني على الحياة، وقد بدأ التحول تدريجيًا منذ قيام حركة الجيش عام 1952 والتي انقلبت على قيم الليبرالية المصرية، ودخلت في منافسة حامية مع تيارات الإسلام السياسي على من منهم يمثل الإسلام أكثر من الآخر، مناخ ساد فيه فكر التكفير في المجتمع وأخذ يكتسب أرضًا يومًا بعد يوم منذ هزيمة الأنظمة العربية في يونيو 67، لقد أصبح الناس يتعاملون بمنطق الحلال والحرام لا منطق الصواب والخطأ، في ظل هذا المناخ جاءت فتوى الدكتور جمعة لتنقض على قيمة أساسية من قيم مصر، وللحديث بقية.

الدستور 12 أبريل 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق