الأربعاء، 10 مايو 2017

الترجمة والنهضة في مصر... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
        الترجمة والنهضة في مصر
عماد أبو غازي
 منذ مطلع القرن التاسع عشر صاحبت كل محاولات التحديث في مصر مشروعات طموحة للترجمة، كانت تهدف بشكل أساسي إلى نقل أحدث ما صدر في الغرب من إنتاج فكري، باعتبار أن الغرب أضحى مركزًا لحضارة عصر الثورة الصناعية.

 وقد ارتبط المشروع الأول للترجمة بمحاولة محمد علي لبناء أسس الدولة الحديثة، وكان مشروعًا تأسيسيًا رائدًا، ساهم فيه المبعوثون الذين أوفدهم إلى أوروبا لتلقي المعارف الحديثة، وحمل عبء التخطيط لهذا المشروع وإرساء قواعده رائد الفكر المصري الحديث رفاعة الطهطاوي، الذي أنشأ مدرسة الألسن لتكون أول مؤسسة تعليمية حديثة متخصصة في إعداد المترجمين وتأهيلهم لنقل معارف الغرب الحديثة إلى العربية، وسرعان ما انضم خريجو المدرسة (مدرسة الألسن) إلى المبعوثين الأوائل في القيام بمهام الترجمة.
 لكن المشروع لم يقم على أكتاف المبعوثين وخريجي الألسن وغيرها من مدارس محمد علي العليا فحسب بل شارك فيه كذلك بعض موظفي الدولة ممن يجيدون اللغات الأجنبية خاصة التركية التي ترجمت عنها بعض الكتب، بالإضافة إلى بعض المترجمين الشوام.
 لقد شهد عصر محمد علي تحولًا لوظيفة المترجمين من ترجمة المراسلات والوثائق في دواوين الدولة المختلفة ومحاكمها، إلى ترجمة الإنتاج الفكري في مختلف مجالات المعارف الإنسانية، وهو الأمر الذي يعد وصلًا لما انقطع من تراث في الحضارة العربية، فقد ازدهرت حركة الترجمة ونشطت في القرون الأولى للهجرة خاصة في عصور الدولتين العباسية في العراق والفاطمية في مصر، حيث نقلت أساسيات الفكر اليوناني والفارسي والهندي والسرياني من لغاتها الأصلية إلى العربية، وامتلأت بها دور الحكمة ومكتبات القصور ومعاهد العلم جنبًا إلى جنب مع مؤلفات الكُتَّاب العرب، ومع انكسار الدولة العربية الإسلامية وتراجعها السياسي والحضاري تراجعت حركة الترجمة إلى العربية، إلى أن جاء مشروع محمد علي التحديثي متضمنًا في القلب منه مشروعًا للترجمة.
 وإذا عدنا للدراسة القيمة التي أنجزها سنة 1946 المؤرخ المصري الكبير الدكتور جمال الدين الشيال حول تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي سوف يتبين لنا من خلال الجداول الإحصائية والرسوم البيانية التي قام بإعدادها عدة حقائق، أولها: إن مجموع ما ترجم خلال عصر محمد علي كان مئة وواحدًا وتسعين كتابًا، تسعة كتب منها ترجمت نقلاً عن العربية إلى اللغة التركية، وواحد وستون كتابًا نقلت عن الفرنسية إلى التركية معظمها في الفنون الحربية والبحرية، والباقي وعدده مئة وواحد وعشرون كتابًا نقلت إلى العربية، وثانيها: أن اللغة التركية تحتل المرتبة الثانية بفارق كبير حيث ترجم عنها إلى العربية ستة كتب نصفها في الفنون الحربية والبحرية، وتأتى اللغة الإيطالية في المرتبة الثالثة برصيد ثلاثة كتب ثم الترجمة عن الفارسية كتاب واحد، ثالث هذه الحقائق: أن المؤلفات التي تتناول فنون حرب تأتي في المرتبة الأولى في الترجمة حيث ترجم في هذا المجال 64 كتابًا يليها الطب 34 كتابًا ثم الطب البيطري 22 كتابًا فالتاريخ 14 كتابًا والهندسة عشرة كتب، أما باقي ما ترجم في فروع المعارف الإنسانية المختلفة فيتراوح ما بين كتاب وخمسة كتب في كل فرع، وهذا يوضح مدى ارتباط مشروع الترجمة في عصر محمد علي بمشروعه العسكري.
 وقد بلغت حركة نشر الأعمال المترجمة ذروتها في مطلع الأربعينيات من القرن التاسع عشر، وأخذت بعد ذلك في التراجع، وقد طبع من الأعمال المترجمة 187 كتابًا وظلت أربعة منها كتبًا مخطوطة، وكان النصيب الأكبر في طبع الكتب المترجمة لمطبعة بولاق التي طبعت وحدها 171 كتابًا من الأعمال المترجمة.
 وإذا كان مشروع محمد على للترجمة قد تراجع بانهيار مشروعه السياسي وهزيمته العسكرية، ثم كاد أن يتوقف بعد وفاته فتراجعت حركة الترجمة كحركة منظمة وأصبحت قائمة على الجهود الفردية، لكن مع الصحوة التي أعقبت ثورة 1919 ظهرت إلى الوجود مشروعات جديدة للترجمة نهضت بها مجموعات من المفكرين والكتاب فقد عرفت مصر مشروعات متعددة للترجمة كانت تبدأ وتختفي مع كل محاولات التحديث، ولعل من أبرز مشروعات الترجمة في القرن العشرين جهود كل من لجنة النشر للجامعيين ولجنة التأليف والترجمة والنشر، فضلًا عن مشروع إدارة الترجمة بجامعة الدول العربية، إلا أن أيًا من هذه المشروعات لم يقدر له الاستمرار.
 وفي الخمسينيات والستينيات ظهر إلى الوجود مشروع «الألف كتاب» الذي قام بإشراف وزارة التعليم وشاركت فيه دور نشر متعددة، لكنه لم يكتمل ولم يحقق طموح مؤسسيه في الوصول إلى الرقم 1000، فضلًا عن أنه ضم أعمالًا مترجمة وأخرى مؤلفة.
 وفى السنوات القليلة الماضية ظهرت على الساحة الثقافية في مصر عدة سلاسل للترجمة، تصدر عن هيئات مختلفة في وزارة الثقافة، كما تبنت بعض المراكز الثقافية الأجنبية مشروعات لدعم الترجمة من إلى اللغة العربية تشارك فيها العديد من دور النشر الخاصة والحكومية، فهل تنجح مثل هذه المشروعات في تغير الصورة الكئيبة لوضع الترجمة في إلى العربية، وهل تسهم في زيادة نصيب العالم العربي من الترجمة الذي لا يتجاوز (33 من مئة في المئة) مما يترجمه العالم!

الدستور 28 ديسمبر 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق