الأحد، 21 مايو 2017

دنشواي في ضمير المصريين... من أرشيف مقالاتي القديمة

 مخربشات
دنشواي في ضمير المصريين
عماد أبو غازي
 من طاهر حقي في روايته عذراء دنشواي إلى أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي في قصائدهم المتعددة عن الحادثة إلى عبد الهادي الوشاحي في تمثاله للفلاح الشهيد، ظلت دنشواي حاضرة في وجدان مبدعي مصر وفنانيها، شعرًا ونثرًا، نحتًا وتصويرًا.

الفلاح الشهيد
لعبد الهادي الوشاحي

 جاءت البادرة الأولى للتعبير عن المأساة بعد أيام قليلة من تنفيذ الحكم في فلاحي دنشواي عندما بدأ طاهر حقي في نشر رواية "عذراء دنشواي"، والتي تعد أول تجلي أدبي للحادثة، وقد نشرها مسلسلة في جريدة "المنبر" لصاحبها أحمد حافظ عوض، ويذكر المؤرخ الكبير محمد صبري السوربوني في كتابه "الشوقيات المجهولة" أن طاهر حقي أخبره أن منسفيلد حكمدار العاصمة الإنجليزي قد استدعاه أكثر من مرة أثناء نشر الرواية مطالبا إياه بتخفيف حدة كتابته، مهددًا إياه بسوء العواقب.
 وقد أهدى حقي الرواية إلى شوقي، لكنه رفض قبول "الهدية"، وأرسل إلى طاهر حقي وأحمد حافظ عوض قائلًا:
"صديقي العزيزين
 اطلعت في المنبر المتصل إن شاء الله تعالى بالجوزاء على فاتحة رواية باسم (عذراء دنشواي) رأى حضرة واضعها الفاضل تلطفًا منه وإحسانًا أن يهديها إلى. ورأيت أن أعتذر على أعواد المنبر من قبول الهدية وأن انفض يدي من عذراء نشأت بين حَمام كم جلب حِمام، وبين أجران كم جرت أحزان. ولو سألني حضرة المؤلف رأيي قبل أن ينشر ما نشر، كما هو مألوف في مثل هذا المقام، لدللته على من هو أحق مني بحسن ظنه كعشماوي، أو نابغة المحامين الهلباوي، أو غيرهما من جنود الحادثة وشهود الكارثة والسلام.
المخلص شوقي"

شوقي
  والسخرية الممزوجة بالسخط على الجلادين واضحة في كلمات شوقي كما في قصائده، فقد كتب شوقي في الذكرى الأولى لدنشواي قصيدة قال فيها:
يا دنشواي على رباك سلام           ذهبت بأنس ربوعك الأيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا      هيهات للشمل الشتيت نظام
مرت عليهم في اللحود أهلة          ومضى عليهم في القيود العام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها       وبأي حال أصبح الأيتام
عشرون بيتا أقفرت وانتابها         بعد البشاشة وحشة وظلام
يا ليت شعري في البروج حمائم    أم في البروج منية وحِمام
نيرون لو أدركت عهد كرومر      لعرفت كيف تنفذ الأحكام
 نوحي حمائم دنشواي وروعي     شعبا بوادي النيل ليس ينام
إن نامت الأحياء حالت بينه         سحرا وبين فراشه الأحلام
متوجع يتمثل اليوم الذي              ضجت لشدة هوله الأقدام
 وفي 31 يناير 1908 نشرت الجريدة الأسبوعية:
"أرسل إلينا وطني حزين سكن أوروبا دور غناء وكتابًا يقول فيه: لنجعل شعارنا المشنقة، ولنقدس المشنقة فهي سبب حياة أمة. أرسلت إليك هذا الدور وأرجو أن يرغم المغني في الأفراح على أن يفتتح الغناء بهذا الدور..."، أما الدور فيقول:
يا حمامة دنشواي
نوحي للسير جراي
تحت الظلام كي لا ينام
***
الشنق حامي
والضرب داير
فين المحامي
ما فيش كلام
 ويرى السوربوني أن هذا الدور كتبه شوقي ويذكر أن هذا الدور كان يغنى في السهرات الخاصة، ومن المطربين الذين غنوه عبد الحي حلمي ومحمد سليمان.
 ومما كتبه شوقي عن دنشواي أيضا، قصيدته الموجهة إلى الاحتفال الذي نظمه أصدقاء أحمد فتحي زغلول عندما تمت مكافأته على تعاونه مع الاحتلال بالباشوية وبتعينه وكيلا للحقانية بمرتب 125 جنيهًا شهريًا، وقال فيها:
إذا مـا جمعـتم أمـركـم وهممتمـو      بـتقـديـم شـيء للـوكيل ثمـين
خذوا حـبل مشنوق بغير جريرة       وسروال مجلود وقيد سجين
ولا تعرضوا شعري عليه فحسبه    مـن الشعـر حـكم خطه بيمين
ولا تقرأوه في شبرد بل اقرأوا      على ملأ من دنشواي حزين
 ورغم الجهود الفكرية لفتحي زغلول فقد ظل منبوذًا من المصريين وقد أعاد محمد السيد عيد إلى الأذهان صورته السلبية في مسلسل قاسم أمين.
 وفي وداع اللورد كرومر عند رحيله كتب شوقي:
دنشواي إلى جنابه الرحيم
يا لورد إن تك آثار مخلدة        فأنني أثر للعدل ملحوظ
لنشكرنك ما دام الخراب بنا     والصنع عند كرام الناس محفوظ
وكتب:
وداع الشبيبة المصرية للورد كرومر
يا راحلًا عنا وذكرك خالد    أبدًا ليحيي بيننا الآلاما
سر بالسلامة حاملا زفرتنا   واذكر مقامك بيننا الأعوام
واذكر حكاية دنشواي فإنها   كم خلفت بين الربوع يتامى
 ولم تلاحق الذكرى فتحي زغلول وكرومر فقط، بل ظلت جريمة الهلباوي تلاحقه فقد قاطعه الناس وتعاملوا معه باعتباره مجرم شنق أهالي دنشواي بلسانه، ورغم محاولاته لغسيل تاريخه الأسود إلا أنه فشل في ذلك، وبعد ثورة 19 وفي أول انتخابات برلمانية أجريت على أساس دستور 23، والتي خاضها الهلباوي، نشرت جريدة السياسة في ديسمبر 1923 خطبة الهلباوي الانتخابية لعضوية مجلس النواب والتي جاء فيها: "يعيدون مرافعتي ولا يذكرون أن المرحوم فتحي باشا زغلول شقيق سعد باشا هو الذي قبلت ذمته أن يحكم مع الآخرين بتلك العقوبات لأن الحكم كان بالإجماع، وقبل قلمه أن يسطر تلك الحيثيات لأنه هو وحده الذي سطر حيثيات الحكم التي تنفث لهبًا ونارًا"
 لقد أصبح الهلباوي رغم كل محاولاته للتكفير عن جريمته ـ كما قال صلاح عيسى ـ مجرد محطة أتوبيس في شارع المنيل حيث كان يسكن وحتى المحطة ألغيت الآن.
أما بطرس باشا غالي فكان أحد الأسباب التي ذكرها إبراهيم الورداني لارتكابه جريمة الاغتيال رئاسته لمحكمة دنشواي.
إذا كنا نسينا الإنجليز فإن المصريون الذين باعوا أهلهم لم ولن ينسى جريمتهم أحد، إن الدرس الذي ينبغي أن يتعلمه الطغاة أن الشعوب لا تغفر أبدًا لمن أهانوها أو خانوها.

الدستور 28 يونيو 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق