الخميس، 11 مايو 2017

مخربشات
حوادث الزمان ووقايع الديوان

 

عماد أبو غازي

"بسم الله الرحمن الرحيم"

 "الحمد لله الكفيل بحسن العواقب، الرافع من عمل صالحا إلى أرفع المراقي والمراتب، المرشد من عدل في أحكامه إلي أحسن المذاهب ..."


 بهذه الصيغة التقليدية التي نصادف عبارات مثيله لها دائمًا في فواتح كتب التراث العربي في العصور الوسطي، استهل إسماعيل الخشاب نصًا غير تقليدي بين المخطوطات العربية، يعود تاريخه إلى مطلع القرن التاسع عشر، نص سجل فيه وقائع جلسات أخر دواوين القاهرة في زمن الحملة الفرنسية، وهو الديوان الذي أصدر مينو ـ ثالث قادة الحملة في مصر ـ قرارًا بتشكيله في 2 أكتوبر سنة 1800، وبدأ أعماله في الثالث من نوفمبر من السنة نفسها، واستمرت جلساته بانتظام حتى السادس من يوليو سنة 1801، قبيل رحيل الحملة عن مصر مباشرة.
 وكان بونابرت قد تبني عند قدومه إلى مصر في صيف 1798 سياسة تقوم على إشراك مجموعة من أعيان المصريين في إدارة أمور البلاد في ظل الاحتلال الفرنسي، وفي هذا السياق شكل بونابرت ديوانه الأول في 25 يوليو سنة 1798 من بعض كبار مشايخ الأزهر الذين برزوا في الحياة العامة في السنوات السابقة على مقدم الحملة الفرنسية إلي مصر، وقد مر الديوان بمراحل متعددة وتوقف أكثر من مرة بسبب ثورة القاهرة الأولي في أكتوبر 1798، ثم مقتل كليبر القائد الثاني للحملة في يونيو 1800.
 وبعد شهور من تولي مينو قيادة الحملة في مصر، ومع اتجاهه إلي استمرار الاحتلال الفرنسي للبلاد، قرر إعادة إنشاء الديوان ليلعب دورًا أساسيًا في مشروعه السياسي، وكان هذا الديوان يضم تسعة أعضاء من المسلمين وأربعة عشر عضوًا شرفيًا، وقد تولي الشيخ عبد الله الشرقاوي رئاسة هذا الديوان، وقام الشيخ محمد المهدي بعمل السكرتير أو كاتم السر كما تسميه الوثائق الرسمية العربية للديوان، وكان من بين أعضاء هذا الديوان المؤرخ المصري الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، كما كان للديوان وكيلًا فرنسيًا وهيكل إداري يضم كتابًا  ومترجمين، وكان الديوان يجتمع بشكل دوري منتظم، بمعدل ثلاث مرات كل عشرة أيام.
 وقد صدر عن المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة كتابًا يحمل عنوان: "التاريخ المسلسل في حوادث الزمان ووقايع الديوان"، والكتاب يضم نصين منفصلين، لكنهما نصين مترابطين كل منهما يكمل الآخر، وهما عبارة عن مخطوطتين، الأولي كانت معروفة منذ فترة طويلة، وتتكون من 44ورقة، وهي من مقتنيات المكتبة الوطنية الفرنسية، وتحتوى وقائع ديوان مينو في شهره الأخير، وهي وقائع الجلسات التي تغطي الفترة من 6 يونيو إلي 6 يوليو سنة 1801، وتحمل الأرقام من 21 إلي 31 من دواوين الوكيل الثاني ـ جيرار ـ الذي تولي هذا المنصب في 10 إبريل سنة 1801، أي أن المخطوطة تغطي وقائع الجلسات الإحدى عشرة الأخيرة للديوان.
   أما المخطوطة الثانية، فقد اكتشفت في عام 1998 ضمن بعض الأوراق القديمة في مخزن بأحد المنازل القديمة في منطقة ميز بفرنسا وقد استقرت هي الأخرى ـ الآن ـ بالمكتبة الوطنية بباريس، وهي عبارة عن 265 صفحة تضم الجلسات العشرين الأولي للديوان، والتي تغطي الفترة من 3 نوفمبر إلى 30 ديسمبر سنة 1800.
 ومن هنا، فإن المخطوطتين جزءان من عمل واحد، هو وقائع جلسات الديوان في مرحلته الأخيرة، وقد قام على تحقيق المخطوطتين وتحليلهما والتعليق عليهما ـ بعد جمعهما في كتاب واحد ـ اثنان من المتخصصين البارزين في الدراسات العثمانية، ينتميان إلى جيلين مختلفين، أولهما المؤرخ الفرنسي الكبير أندريه ريمون الذي كرمته مصر العام الماضي بمناسبة بلوغه الثمانين، وثانيهما محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة.
 والنصان اللذان يحملان عنوان: "التاريخ المسلسل في حوادث الزمان ووقايع الديوان" منسوبان إلي إسماعيل الخشاب، الذي شغل وظيفة كاتب الديوان، أي أنه شاهد عيان مشارك في وقائع تلك المرحلة الأخيرة من عمل الديوان التي سجلها بقلمه، وقد عرف الرجل بهذا الاسم لأن أباه كان نجارًا ففتح له مخزنًا لبيع الخشب عند باب زويله، وقد ولد الخشاب في القرن الثامن عشر الميلادي، وعاش الخشاب فترة من أهم فترات التحول في تاريخ مصر الحديث.
 أما الكتاب فيتميز بأنه يقدم لنا صور من حياة المصريين اليومية في ظل الاحتلال الفرنسي، لقد كان الديوان الذي يعتبره بعض المؤرخين مع التجاوز أول برلمان في مصر يقوم بدور الوساطة بين المصريين وقيادة الحملة، ومن هنا تكشف لنا أوراق هذا الديوان التي جمعها الخشاب عن مشاكل المصريين مع الإدارة، وعن معانتهم اليومية مع جباة الضرائب، وشكاواهم من المصادرات، كما تكشف عن الأصل التاريخي لظاهرة نائب الخدمات، فقد كانت المهمة الأساسية ل"نواب الشعب" هي حل مشكلات الأهالي والتوسط بين الناس ورجال الاحتلال الفرنسي ومعاونهم، إننا أمام كنز من الصور الطريفة الصغيرة التي تصلح مادة للدراما التلفزيونية والأعمال السينمائية بنفس القدر الذي تفيد به المؤرخ.

 الدستور 15 فبراير 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق