الاثنين، 15 مايو 2017

اليونانيون في مصر... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
 اليونانيون في مصر
عماد أبو غازي

 اختتمت الجالية اليونانية وسط مشاركة ثقافية مصرية كبيرة احتفالاتها بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس الجمعية اليونانية بالقاهرة، والتي تأسست سنة 1904، وقد شمل الاحتفال الختامي عرضًا شعريًا موسيقيًا غنائيًا على مسرح هضبة الأهرام، باسم "أنشودة إلى الإسكندر الأكبر" شارك فيه أوركسترا القاهرة السيمفوني وكورال أوبرا القاهرة وفرقة الطبول المصرية مع مجموعة من كبار الفنانين اليونانيين، كما عقدت ندوة علمية حول اليونانيين في مصر الحديثة بمشاركة من باحثين من مصر واليونان.
 وإذا كان الاحتفال يأتي بمناسبة مئوية تأسيس الجمعية اليونانية في القاهرة إلا إن الوجود اليوناني بالقاهرة أقدم من ذلك بكثير، لكن تأسيس الجمعية، التي تعد واحدة من الجمعيات ذات النشاط الثقافي والاجتماعي المتميز في مصر، تأخر كثيرًا عن نشأة الجالية وتأسيسها.
 ربما كانت العلاقة بين مصر واليونان، وبين شعبي البلدين أقدم علاقة بين بلدين وشعبين على وجه الأرض، إنها علاقة تمتد إلى الوراء لبضع آلاف من السنين، علاقة وإن شابتها بعض لحظات التوتر والصدام إلا أنها تعد من أكثر العلاقات إيجابية ومن أطولها تاريخيًا.

كليوباترا السابعة وقيصرون
 وكان لدي إحساسًا دائمًا بأن مصير الشعبين والبلدين يسير في مسار مشترك صنعته الجغرافيا ورسمه التاريخ.
 فمثلما كانت مصر البوابة الشمالية الشرقية لقارتها أفريقيا ونقطة الاحتكاك بينها وبين العالم الآسيوي، كانت اليونان البوابة الجنوبية الشرقية لقارتها أوروبا ونقطة الاحتكاك بينها وبين العالم الآسيوي أيضًا، ومن هذا العالم الآسيوي كانت معظم الأخطار الوافدة التي تصدى لها البلدان.
 كلاهما كان مواجهًا للعالم خارج قارته، اتجهت مصر للشرق والشمال واتجهت اليونان للشرق والجنوب، وربط بينهما عالم البحر المتوسط، الذي تحول بفضل الحضارتين ومعهما الحضارة الفينيقية إلى عامل وصل بين شعوبه لا حجز فصل بينها.
 علاقة اليونانيين بمصر ووجودهم فيها يرجع تاريخيًا إلى عصور قديمة  في تاريخ الشعب اليوناني، تسبق بكثير غزوات الإسكندر الأكبر للشرق القديم، ترجع إلى تلك العصور التي كانت أون أو عين شمس مدينة الفكر والعلم في العالم القديم وإليها يتجه الباحثون عن الحقيقة من كل صوب، فكان الطلاب يأتون إلى معابدها من اليونان ليدرسوا على كهنتها، وتتجه كثير من الدراسات الحديثة اليوم إلى البحث عن الجذور المصرية القديمة للفلسفة والفكر اليوناني، ومع تطور الحضارة في اليونان جاء تجار وبحارة يونانيون إلى مصر، وفي العصور المتأخرة للحضارة المصرية جاء اليونانيون مقاتلون في صفوف الجيش المصري أثناء مواجهاته للغزاة الآشوريين والفرس القادمين من الشرق، فكانوا ساعدًا للمصريين في تحرير بلدهم  للأكثر من مرة، واحتل اليونانيون مكانة مهمة في مصر في عصر الفرعون المحرر بسماتيك، إنه تاريخ مشترك سبق بكثير عصر البطالمة خلفاء الإسكندر الذين حكموا مصر قرابة ثلاثة قرون من الإسكندرية مدينة الإسكندر الأكبر التي لم يرها مكتملة، والتي وضع حجر أساسها بعد غزوه لمصر،  مصر التي تلقى فيها النبوءة في معبد الوحي بسيوة بأنه ابن آمون، النبوءة التي جعلته يصور نفسه بقرني الكبش الرمز الحيواني لآمون، ومن هنا سمي "الإسكندر ذو القرنين"، وقد حكم البطالمة مصر بعد الإسكندر، وكانوا بالطبع حكامًا أجانب بالنسبة للمصريين، قام الشعب بعدد من الثورات ضدهم، سعيًا لاستعادة حكم البلاد لأبنائها، وحتى يثبت البطالمة حكمهم تمصروا في كثير من مظاهر سلوكهم وخلطوا عقائدهم الدينية بعقائد المصريين، وفي المقابل اختار المصريون الحرف اليوناني ليكتبوا به لغتهم في مرحلة من أهم مراحل تطورها المرحلة القبطية، وعندما جاء الرومان لاحتلال مصر سنة 30 قبل الميلاد، كان البطالمة بمعنى ما قد أصبحوا الأسرة المصرية الحادية والثلاثين، ومن الملاحظ من قراءة التاريخ المصري أن هناك دومًا  فرق بين احتلال أجنبي يحكم مصر من خارجها مثلما كان الحال في عصور الرومان والبيزنطيين والعرب في عصر الولاة والعثمانيين، وحاكم أجنبي يحكم مصر من داخلها مثلما كان حال البطالمة والفاطميين والمماليك وأسرة محمد علي.
والغريب أن الشعبين المصري واليوناني جمع بينهما دومًا أعداء مشتركين، الفرس والرومان في العصور القديمة والأتراك العثمانيين الذين أدوا إلى تأخر الشعبين لثلاثة قرون مع نهاية العصور الوسطى ومطلع العصر الحديث.
 ومن اللافت للنظر أن رجال عصر التنوير قد انتبهوا للعلاقة الخاصة بين الحضارتين، فأصر طه حسين على أن يكون من بين أقسام كلية الآداب بالجامعة المصرية قسمًا للدراسات اليونانية واللاتينية، وكان المشروع الأخير للمثال مختار قبل رحيله تمثالًا ضخمًا للإسكندر الأكبر رمزًا للتواصل بين الشرق والغرب بمدخل مدينة الإسكندرية، لم يبق منه إلا تخطيطاته الأولية.
 وإذا كان كثير من اليونانيين قد غادروا مصر في الخمسينيات مع سيطرة النظام الشمولي على البلاد، تركوها رغم موقفهم المساند لنا في تأميم قناة السويس، فإن التجربة المشتركة تدعونا إلى التأمل في العودة للتقاليد المصرية العريقة في قبول الآخر والتعايش بين الشعوب والأجناس والأديان المختلفة، وفي أهمية إعادة بناء الجسر المصري اليوناني جسرًا بين جنوب المتوسط وشماله.
الدستور 26 أبريل 2006


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق