الثلاثاء، 30 مايو 2017

من قناة سيزوستريس إلى خليج أمير المؤمنين... القناة مصرية... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات

من قناة سيزوستريس إلى خليج أمير المؤمنين... القناة مصرية

عماد أبو غازي

 عودة إلى قناة السويس في عامها الذهبي بعد توقف قصير... إذا كانت مصر في عصورها القديمة قد عرفت مشروعات لربط البحرين الأبيض والأحمر عبر النيل، فإن هذه المشروعات قد تجددت مرة أخرى بعد دخول العرب إلى مصر في القرن السابع الميلادي، ومصدرنا عن هذه المشروعات كتابات المؤرخين العرب، التي تتحدث عن الخليج الذي كان يعرف باسم خليج أمير المؤمنين، وتعود تلك الكتابات بأصول المشروع إلى قناة سيزوستريس التي تذكرها المصادر الإغريقية، وترجع المصادر العربية بهذا المشروع إلى فترة مبكرة جدًا في الحقبة العربية من تاريخ مصر، إلى عصر أول الولاة العرب عمرو بن العاص.
 هذا وتحفل الروايات التاريخية العربية بكثير من الاضطراب فيما يتعلق بحفر القناة في عصور الحضارة المصرية القديمة، وربما أتى الاضطراب نتيجة انقطاع صلة المؤرخين العرب بالتراث المصري القديم، ورغم ما تحمله تلك الروايات من خلط بين الأساطير والخرافات والوقائع التاريخية فإنها روايات لا تخلو من دلالة على وجود هذه القناة وأهميتها في ربط مصر بجزيرة العرب تجاريا منذ أقدم العصور، فماذا يقول تقي الدين المقريزي شيخ مؤرخي مصر في القرن الخامس عشر الميلادي عن هذه القناة ؟
 في خططه المعروفة بـ"كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" يتحدث المقريزي  عن الخليج المسمى بخليج أمير المؤمنين نسبة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فيقول: "هذا الخليج بظاهر القاهرة من جانبها الغربي فيما بينها وبين المقس"... والمقس منطقة تقع ما بين ميدان رمسيس وبولاق أبو العلا الآن، كانت بها إدارة جباية الرسوم الجمركية على البضائع الواردة للقاهرة، حيث كان ميناء بولاق يعد الميناء الشمالي للمدينة، وكلمة مقس أو مكس كلمة غير عربية تعني الضريبة وكانت تستخدم للرسوم الجمركية خاصة، ومن هنا يتكرر إطلاق اسم المكس على الحي الأحياء المجاورة للموانئ، كما كانت كلمة مكس وجمعها مكوس تحمل معنًا آخر له دلالة سلبية حيث يشير بها الناس في العصور الوسطى إلى الضرائب غير الشرعية.
  ونعود مرة أخرى لشيخنا المقريزي الذي قال عن الخليج: "عرف في أول الإسلام باسم خليج أمير المؤمنين، ويسميه العامة الخليج الحاكمي وخليج اللؤلؤة، وهو خليج قديم أول من حفره طوطيس بن ماليًا أحد ملوك مصر الذين سكنوا مدينة منف، وهو الذي قدم إبراهيم الخليل صلوات الله عليه في أيامه إلى مصر، وأخذ منه امرأته سارة وأخدمها هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليهما، فلما أخرجها إبراهيم هي وابنها إسماعيل إلى مكة بعثت إلى طوطيس تعرفه أنها بمكان جدب وتستسقيه، فأمر بحفر هذا الخليج وبعث إليها فيه بالسفن تحمل الحنطة وغيرها إلى جدة، فأحيى بلد الحجاز".
 ومن المفترض أن ترجع وقائع تلك القصة إلى زمن يقابل عصر الدولة الوسطى في تاريخنا المصري القديم، الزمن الذي شهد وفود العديد من القبائل السامية من مناطق غرب آسيا إلى مصر، والتي تسجلها النقوش المصرية القديمة. ويسترسل المقريزي في تتبع تاريخ القناة في العصر الروماني فيقول: "ثم أن أندرومانوس الذي يعرف بإيليا أحد ملوك الرومان بعد الإسكندر بن فيلبس المقدوني جدد حفر هذا الخليج، وسارت فيه السفن، وذلك قبل الهجرة النبوية بنيف وأربعمائة عام" وينتقل بعد ذلك إلى مشروع تجديد القناة عقب دخول العرب إلى مصر قائلًا: "ثم أن عمرو بن العاص رضي الله عنه جدد حفره لما فتح مصر، وأقام في حفره ستة أشهر وجرت فيه السفن تحمل الميرة إلى الحجاز، فسمي خليج أمير المؤمنين، فإنه هو الذي أشار بحفره، ولم تزل تجري فيه السفن من فسطاط مصر إلى مدينة القلزم (السويس الآن)، وكان يصب ماء النيل في البحر عند مدينة القلزم إلى أن أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بطمه في سنة خمسين ومائة،  فطم وبقى منه ما هو موجود الآن"...
 ومن رواية المقريزي التي سعى فيها للتأصيل التاريخي لتلك القناة تبدو بوضوح محاولته للربط بين القناة التي حفرها ملك مصر لإمداد السيدة هاجر بالطعام وقناة أمير المؤمنين، فللقناتين نفس الهدف، إمداد الحجاز بقمح مصر وخيرتها، لكن الحقيقة أن قناة أمير المؤمنين لها نفس دوافع قناة دارا الفارسي، أي ربط ولاية جديدة بمركز الإمبراطورية.
 الغريب في الأمر أن مصر في عصر المقريزي، أي القرن الخامس عشر الميلادي وفي ظل حكم المماليك الـجراكسة كانت مركزا رئيسيا لطرق التجارة العالمية، وكانت تجارتها الخارجية مزدهرة، بل كانت عوائد تجارة الترانزيت تشكل المصدر الثاني لموارد الدولة بعد الزراعة، وكان هناك تحالف استراتـيجـي بين سلطنة المماليك وجمهورية البندقية أساسه مصالحهم التجارية المشتركة في السيطرة على تجارة العالم القديم، وكانت بقايا خليج أمير المؤمنين لا تزال موجودة، وتاريخ الخليج وفكرته معروفة، فلماذا لم تقم مصر المملوكية بمشروع لإعادة شق خليج أمير المؤمنين لتربط طرق التجارة بين الشرق والغرب، خاصة بعد أن بدأت الكشوف الجغرافية التي قام بها الأسبان والبرتغاليين تؤتي ثمارها في كشف طريق بحري مباشر إلى شرق آسيا بالدوران حول رأس الرجاء الصالح؟

الدستور 6 سبتمبر 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق