السبت، 27 مايو 2017

قناة الفراعنة... من أرشيف مقالاتي القديمة

مخربشات
قناة الفراعنة
عماد أبو غازي

 لقد كان مشروع قناة السويس ـ في رأي الكثيرين ـ سببا في وضع مصر في بؤرة الصراعات الدولية منذ منتصف القرن التاسع عشر، فهل كان هذا أمرًا جديدًا بالنسبة لمصر؟ وهل كانت فكرة ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر وليدة الفكر الأوربي في العصر الحديث، في مرحلة الثورة الصناعية؟ أو لم يكن لمصر امتياز الموقع منذ عصور تاريخها القديم؟ أو لم يدرك المصريون قيمة موضع بلدهم وموقعها ويفكروا في استغلاله؟
 الواقع أنه منذ ظهر مفهوما النظام الإقليمي والنظام العالمي، أي منذ عرف الإنسان في موطنه أنه جزء من منظومة أكبر، منذ ذلك الحين ومصر تحتل موقعًا محوريًا ضمن المنظومتين الإقليمية والعالمية بمعايير الإقليمية والعالمية في ذلك العصر البعيد، فبعد عدة قرون من بدء الحضارة المصرية وتكوين الدولة الواحدة الموحدة في الوادي والدلتا أدرك المصريون أنهم جزءًا من نظام أوسع يتخطى حدودهم، وبدء اتصالهم بالعالم المحيط بهم. وفي إطار ذلك العالم القديم الذي كان محددًا في البداية بمراكز أكثر تطورًا، تلك التي شهدت ميلاد الثورة الزراعية وشكلت مركزًا متقدمًا لهذا العالم، في مصر وبلاد الرافدين وآسيا الصغرى، وأطرافًا أقل تطورًا في المحيط الأوسع في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا وشرقها ووسط آسيا، كانت مصر تحتل موقعًا متوسطًا في ذلك العالم وتعد نقطة ارتباط بين أطرافه، ومن هنا تولدت لدى المصريون أفكارًا حول ربط أطراف ذلك العالم بعضها ببعض، فما قصة تلك الأفكار؟ وهل تحولت إلى مشروعات في الواقع؟
 إننا نعرف جميعا قصة مشروع قناة السويس الحالية ودور دلسيبس فيها، كما نعرف أن فكرة ربط البحرين الأحمر والأبيض سابقة على دلسيبس، فقد جاء علماء حملة بونابرت على مصر  ومعهم مشروعا لقناة تربط البحرين لكنهم أحجموا عن تنفيذ المشروع لخطأ الحسابات الناتج عن حجم المعرفة العلمية المتاحة وقتها من ناحية ولما أصاب أوضاع الحملة في مصر من اضطراب من ناحية أخرى، كما نعرف كذلك أن مشروعًا آخر لشق القناة طرحه مهندسون أوروبيون من رجال الحركة السانسيمونية ـ وهي حركة إصلاحية ذات توجهات اجتماعية ـ  على محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن الباشا رفض المشروع لإحساسه بأنه سيضع مصر في بؤرة الصراعات الدولية، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن المشروع الذي ظهر إلى الوجود في القرن الماضي كان في الأصل مشروع مصري قديم.


  ففكرة الربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط فكرة قديمة راودت المصريين قبل عشرات القرون، بل تحققت بالفعل في بعض عصور التاريخ المصري، فعندما حفر دلسيبس قناة السويس كان يحيي مشروعا قديما للغاية، ففي زمن ما في الماضي البعيد كان البحر الأبيض المتوسط متصلا بالبحر الأحمر عبر نهر النيل، فقد كان خليج السويس يصل إلى الموضع الحالي لمدينة الإسماعيلية، حيث كان يتصل هناك بأحد الفروع القديمة للنيل الذي كان يتجه من الدلتا نحو الشرق. وتؤكد الدراسات الـﭽيولوﭽية لتلك المناطق هذه الحقيقة، فقد تركت المياة المتراجعة أثرها في الأرض، وآخر هذه الآثار وادي الطميلات وبحيرة التمساح والبحيرات المرة.
 وقد أوحت المنخفضات الطبيعية التي تمتلئ بها المنطقة للمصري القديم بالمسار الذي يمكن له أن يحفر فيه قناة تصل ما بين نهر النيل وقمة خليج السويس، وقد كانت لدى المصريين القدماء دوافعهم لإعادة شق طريق مائي صناعي يحل محل المجرى الطبيعي الذي طُمر مع مرور الزمان.
 لقد ارتبطت مصر منذ أقدم العصور بعالم البحر الأحمر، فكان للمصريين تجارتهم المستمرة مع المناطق الجنوبية والشرقية، وقد سجلوا تفاصيل رحلاتهم تلك في النقوش على جدران المقابر والمعابد، وكان شق مثل تلك القناة يمكن أن يوفر عليهم رحلة شاقة في الصحراء الشرقية ثم في صحراء سيناء فجزيرة العرب، أو في الصحراء الشرقية إلى الموانئ المصرية الجنوبية على شاطئ البحر الأحمر، فعبر تلك القناة كان يمكن أن تنتقل سفن الأسطول المصري مباشرة من وادي النيل إلى البحر الأحمر.
 إذًا فلم يكن قصد المصريين القدماء من وراء شق هذه القناة هو ربط البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، بل مجرد ربط النيل بالبحر الأحمر وتوفير القدرة للأسطول المصري على أن يجوب البحر الأحمر منطلقًا من منف على رأس وادي النيل، لكن نتيجة هذا المشروع الضخم كانت تحقيق إمكانية الانتقال ما بين البحرين بسهولة ويسر، وربط طرق التجارة في العالم القديم بطريق بحري متصل.
 وتحفل المصادر التاريخية القديمة وكذلك النصوص الأدبية ـ سواءً في ذلك المصادر الإغريقية أو الفارسية أو الرومانية أو العربية ـ بالعديد من الروايات التي تغلفها كثير من الأساطير، وتلك الروايات مختلفة في تفاصيلها وإن اتفقت في مضمونها حول حفر هذه القناة ووجودها.
 ولما تقوله تلك الروايات وما تحمله من قصص تجمع بين الحقيقة والخيال حديث آخر.

الدستور 16 أغسطس 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق